بينما كانت شمس يوم الخميس الماضي تسجّل آخر لحظات «دوامها» في نهار جدّاوي يتأرجح بين نهاية شتاء وبداية صيف.. كنت أتخذ طريقي إلى البلد.. قاصدًا المكان الذي كان يؤمه الراحل محمّد صادق دياب.. أردت أن أقف على صورته الأخرى بعيدًا عن صورة الأديب والكاتب والروائي والقاص.. كانت الأسئلة تزدحم في رأسي، والسيارة تنهب الطريق من أقصى شرق جدة إلى غربها، قريبًا من البحر.. ترى كيف هي صورة هذا «المجلس».. هل للقب «العمدة» الذي لازم «دياب» علاقة بصورة المكان..؟ ربما.. وصلت إلى مقصدي.. عند مدخل حي «الهنداوية».. ثمة مقهى يحمل لافتة «بوفيه البحر الأحمر»، يؤمه أفراد من جاليات إفريقية.. استقبلني «العم رجب» عند مدخل الحارة في الشارع.. قادني عبر أزقة تضيق حينًا وتتسع في أخرى.. بعد ثلاثمائة متر تزيد قليلًا من المسير عبر الأزقة وقفت أمام الدار.. هذه الدار تعود ملكيتها إلى «العم رجب» نفسه.. أشار إليّ بالدخول.. إذًا.. إلى هنا كان «دياب» يأتي قاطعًا المسافة من حي النزهة في شمال جدة.. دخلت.. فإذا قدور الطبخ وأدوات «الشيشة» تحتل جزءًا كبيرًا من مدخله.. أجلت عيني في المكان.. تخيلت «دياب» يجلس في ركن منه، ينظر ويتأمل، يقرأ الوجوه بسريرة صافية، ويتأمل حيواتهم المختلفة بعطف إنساني كبير.. يشاركهم بكامل عقله، ويتقاسم معهم وجدانه العامر بحب معشوقتهم «جدة».. في هذا المكان تذوب الفوارق كلها.. المسافة بين المجتمعين بحساب «الرتب» و »التصنيفات الاجتماعية» تكاد تكون مذهلة؛ فهناك الأكاديمي المزيّن بلقب الدكتور، والمثقف الضارب سبحًا في سديم «الإشكاليات» المعقدة في كرته الأرضية، والمفكر المشغول بقضايا الكون العظيمة، ولاعب كرة لم تبق له إلا الذكريات، وعمّال يرقبون طلعة الشمس ليفجّروا طاقاتهم عملًا، وبائعون.. يجعلون من المال جسرًا بين بضاعتهم والزبائن.. أصناف مختلفة، وفئات متعددة.. تسقط بينها كل هذه «الأثقال» وتأخذ مقعدها في هذا المجلس بكل أريحية.. تخرج الذكرى من خبايا النفوس، وتستوطن ذاكرة الأيام، فإذا هم جزء من «تاريخ» العروس، ما زالوا يمسكون بها أن تغرق في خضم «الحداثة».. إلى هنا كان «دياب» يحضر.. فانقطع بموته صوت «حبيب» كانوا يأنسون له.. عاشق الصهبة والأهلي أخرجني «العم رجب» وهو الصديق المقرب من «دياب» من خواطري التي تداعت.. قال بصوت حفّت حواشيه نبرة من حزن ممض: دياب أحد أوفى الأصدقاء، فبرغم خروجه من البلد لشمال جدة إلا انه كان يحرص على زيارة البلد بشك يومي والجلوس مع أصدقائه في المركاز.. توقف العم رجب برهة جال ببصره في المكان، ثم أردف معرّفًا إياي بمن يرتادون هذا المكان قائلًا: هناك أسماء تتجاوز الأربعين تتردد على المركاز، من أبرزهم العمدة عبدالصمد محمّد، والعمدة طلعت غيث، وعبدالله باسبعين، وأحمد جميل، وسعيد غراب، وإبراهيم الفور، والدكتور عاصم حمدان، وبدر العباسي، وحامد صبحي، والدكتور محمد عمر طاهر، والدكتور محمد باصقر، وحسن باخشوين، وصالح العمودي، وعبدالعزيز الشرقي.. كثيرون؛ وهذه الجلسة مستمرة منذ سنوات، هناك من يحضر بشكل يومي وآخرون يأتون في نهاية الأسبوع، كلٌّ حسب ظروفه.. صمت العم رجب لبرهة، خطر له خاطر أراد أن يشركني فيه، فقال: محمد دياب كان يشجع الأهلي؛ ولكن ليس متعصبًا، ومن لا يعرفه شخصيًّا لا يعرف ميوله، لأنه كان يشجع بذوق، رغم خلافاتنا في المركاز إلا أنه كان يشجع بكل احترام ولا يسيء للآخرين رغم أن أغلب من في الجلسة اتحاديون.. لكن لم يكن يعطي أحدًا فرصة للنقاش معه في الرياضة. حب متوارث ذاكرة العم رجب مليئة بصور يبعثرها الحزن، فيدلقها إلى مساحة البوح كيفما جاءت على خاطره، انتقل بي سريعًا من ميول «دياب الرياضية» إلى كتبه ومؤلفاته قائلًا: كان دياب يحرص على توزيع كتبه بعد تأليفها لكل أعضاء المركاز، كان يأتي بأعداد كبيرة نقوم بتوزيعها، كما كان يعطي العمدة طلعت غيث كتبًا كثيرة لتوزيعها.. كان دياب لديه طموح، وكان يسجل كل شاردة وواردة.. يأخذ من الحضور ويسأل عن أي معلومة ويكتب عنها وكان يجلس مع الجميع من خباز وفرّان وحدّاد.. ويستمع لحكاياتهم.. ورغم عشقه للمزمار في الصغر وحتى قبل وفاته إلا أنه كان متفوقًا.. كان دياب عندما يسمع عن المزمار في أي مكان في البلد يذهب له.. كان يعشق المزاميم والصهبة ويحب جدة ويعشقها بشكل كبير، وحب جدة ورثه من والده يرحمه الله.. ويرسم العم رجب صورة «محمّد» في هذا المجلس بقوله: كان دياب يحترم الكبير بشكل غير طبيعي، وبرغم أنه حصل محمد دياب على دكتوراة في علم النفس فقد رفض أن يقول عن نفسه دكتور، كان يرفض حرف الدال ويقول عن الدكتوراة أنها لا تضيف له شيئًا في آخر عمره.. كان متواضعًا بشكل عجيب.. يذهب لزيارة أصدقاء والده من باب البر بوالده.. لم تكن فيه ذرة من كبر، فقد كان يذهب في منتصف الليل إلى الفقراء والمساكين في البلد والحارات القديمة ليقدم الصدقات سواء منه شخصيًا أو من ناس تعطيه المال والزاد لإيصاله للفقراء. نعم.. كانت أخلاقه عالية ومتواضع بشكل كبير وكان قليل المزح وجدّي، لكنه كان يمزح مع الأشخاص الذين تربوا معه ومن جيله.. وكان يحب أن يسمع من الجميع.. ظللنا على اتصال دائم به في بريطانيا وكان هو كذلك يتصل علينا. ويضيف العم رجب: زاملت محمّد دياب من المرحلة الابتدائية والمتوسطة بمدارس الفلاح؛ كنا نذهب مشيًا على الأقدام يوميًا مسافة لا تتجاوز نصف كيلو، لكن دياب ذهب لثانوية الشاطئ في المرحلة الثانوية، أذكر أنه لم يكن متفوقًا في المرحلة الابتدائية؛ ولكن في المرحلة المتوسطة برز نبوغه وانطلق بعد ذلك، وكان والده يتابعه بشكل كبير في مراحله الدراسية، كذلك كان خاله مسعد غنيم يتابع محمد دياب، وكان دياب يحب خاله ومتعلق به بشكل كبير. انفرجت أسارير العم رجب المنقبضة حزنًا لبرهة حين قال: كان دياب يعشق الأكلات الشعبية من الهريسة والشوربة والتقاطيع، ويشرب بشكل متواصل النسكافيه بالإضافة لعشقه للسوبيا وهذه ميزة كبيرة في محمّد دياب.. كان يدخن الشيشة لكنّه قلل من ذلك كثيرًا قبل أن يسافر إلى العلاج.. عادت ملامح الحزن على وجه «رجب» وهو يختم حديثه بقوله: منزل دياب كان في حي البحر سابقًا ثم انتقل مع أسرته إلى الهنداوية ثم خرج إلى شمال جدة.. منزلهم القديم في الهنداوية لم يبق له أثر، لقد تم هدمه بشكل كامل.. اللهم ارحم محمّد دياب.. مات عنا في الغربة، لكن الحمد لله جسده عاد إلينا. الباحث عن الحقيقة تركت العم رجب لأشجانه، وكان وقتها قد انضم إلينا العم الأذان الذي تسلم خيط الحديث قائلًا: بداية علاقتي مع دياب كانت منذ الصغر؛ حيث تربطني علاقة قوية مع خاله ووالده، فقد كنت أكبر من محمّد دياب، وكنت ألعب مع خاله مسعد غنيم في نادي الكواكب، كذلك كان دياب زميل أخي النور.. كنا نجلس مع دياب فهو يأتي إلى المركاز بعد العشاء وحتى الساعة العاشرة مساء، وكنا نحرص على الاتصال به عند وجود تجمع في المركاز، والجلسة تضم عددًا كبيرًا من الرياضيين والأدباء والمفكرين، ومن شخصيات أخرى غير معروفة، وفي المركاز نجتمع بشكل يومي ولكن دياب لا يحضر بشكل منتظم.. كان دياب يحرص على الحضور لوجود طبّاخ ماهر لدينا هو العم رجب والذي اشتهر بعمل السليق. ويضيف الأذان: كان دياب يسمع كثيرًا من كبار السن سواء في الجلسة أو في غيرها، وكان يدوّن الكثير مما يسمعه خصوصًا من الأشياء والأحاديث التي عن جدة وتاريخها وقصص أهلها، وكان في بعض الأحيان يحضر مسجلًا لتسجيل بعض أحاديث كبار السن.. وكان الكثير من معلوماته التي يكتبها في مقالاته يستقيها من كبار السن.. نظر «الأذان» بعيدًا وكأنه يقرأ من صفحة الذكرى موقفًا ما، قائلًا: كان يثق فيَّ بشكل كبير ويستشيرني بشكل دائم، ففي أحد المرات كانت زوجته أم غنوة منومة في المستشفى لعمل عملية القلب، واتصل عليَّ في جدة وطلب أن أحضر معه حتى أقف معه في هذه المحنة، وفعلًا تخليت عن كل مشاغلي وذهبت للرياض ومكثت حتى تمت العملية بنجاح لأم غنوة وعدنا إلى جدة.. الأذان أخذته برهة صمت كأنما تدافعت عليه الأحزان جملة واحدة فآثر أن يختصر الحديث بجملة واضحة صاغها بقوله: إننا نفتقده كثيرًا.. حلال المشاكل معين الذكريات لا ينضب، والراحلون لا يتركون لنا منها إلا ما يوقظ ذواتهم في دواخلنا، ويعيدهم إلينا في تباريح الحزن.. ابن خاله ورفيق دربه حسن مسعد غنيم فتح نافذة الذكرى، واستدعى أيامًا خلت مع «دياب» رسم لمحات منها بقوله: محمد دياب كان «حلالًا للمشاكل» في كل الأسرة؛ سواء مشكلة مادية أو معنوية، وكانت كل مشاكل العائلة تتكسر أمام محمد صادق دياب.. وكان حتى في مرضه يشاركنا همومنا، ولم أشاهد في حياتي تجمع الناس على محبة أحد مثل محمّد صادق دياب.. وبعد وفاته توفت العائلة مع موته، فقد كان الخبر عند وفاته قد أماتنا جميعًا ولم يبقَ أحد إلا وهو يبكي على محمد، فقد عانيت من إبلاغ والدي عن وفاة محمد، حيث جلست أمام والدي حوالي أربع ساعات من أجل أن أوصل الخبر له بشكل تدريجي، وفي النهاية أخبرته وانهار الوالد بعد أن أخبرته.. ويعد غنيم إلى أيام الصبا والطفولة مع «محمد» قائلًا: تربيت أنا ومحمد في منزل واحد، وبحكم أن العم صادق وهو والد محمد كان هو الآمر والناهي، وكان هم الذي يتولي التربية للعم الصادق وعم صادق هو زوج عمتي ولديه ثلاث أبناء هم محمد -يرحمه الله- وأحمد وصالح، وكنا نأكل ونشرب وننام مع بعض، وكنا لا نناديه إلا بالأخ.. ونحن نتشرف بالانتماء بمؤاخاة محمد صادق دياب، فقد كان هو الكبير، ويتابعنا في دراستنا، وكان والده العم صادق هو أب لكل أهل الحي، ويحل كل مشاكل الحارة، ويقوم بدور العمدة، وكان الجميع ينام مطمئنًا بوجود عم صادق يرحمه الله، ومن هذا المنطلق أخذ محمد هذه الميزة عن والده حيث كان عدة أشخاص في شخص واحد. مستودع الأسرار ومحمد دياب يعني لي الابن والأخ والوالد والصاحب وهو مستودع أسراري.. وكنت كذلك أنا مستودع أسراره، وقد ذهبت في أحد المرات للعلاج في مصر فتخلى محمد عن كل مشاغله ورافقني في رحلتي العلاجية في مصر وكان مهتم بالجميع، وبعد رحيله فقدت الصديق الوفي الذي كنت أبوح له بأسراري وكان لا يستغني عن إخوانه ويعشقهم كثيرًا ولكن كانت علاقتي به قوية رغم أنه يكبرني بثلاث عشرة سنة وكان محمد يتابعنا في المدارس ويحل مشاكلنا في المدارس والحارة، وكان هو عميد الأسرة وكان رمز في الأسرة وسوف يظل كذلك بإذن الله. ويضيف حسن: كان محمد مهتمًا بأخبار جدة وتاريخها، وكان يجلس حتى مع النساء العجائز ومع كبار السن لمعرفة كل شيء، ويأخذ الأمثال والحكم، وكان يبحث عن المصداقية ولا يترك مجالًا للشك.. كان دقيقًا في أعماله.. يحب الحياة، لا أحد يرفض له طلبًا، يجمع كل الأصدقاء والأصحاب ويجمعه الغريب والصديق. وكان يذهب للهنداوية ويبحث عن أصدقاء الدراسة ويبحث عن الفقراء والمساكين ويساعدهم، وكان ينزل للبلد بشكل يومي، فجدة عشقه فيذهب لكل الأحياء القديمة ويقابل كبار السن لاسترجاع الذكريات ويواصل أصدقاء والده، وبالأخص في شهر رمضان يذهب للبلد بشكل يومي ويذهب إلى المركاز لاسترجاع الذكريات.. فالشخص الوحيد الذي يأمر عليَّ وعلى أبنائي بعد والدي أطال الله عمره هو محمد صادق دياب.. ويأخذ الحزن مأخذه من غنيم، دارت دمعتان في حدقتا عينيه.. ركّز بصره في «جواله»، قال في أسى: لازلت أحتفظ برسائله في جوالي، فقد كنت متواصلًا معه حتى قبل عشرة أيام من وفاته.. يرحمه الله.