في وداع سميحِ القاسم الكتابة عن شاعر بحجم سميح القاسم صعبة.. بل صعبة جدا.. كيف أستطيع أن أصف علاقتي بشاعر يستند إلى أسطورة وتغرف عيناه من قمر شارد؟! لم أصادف إنسانا يتمتع برصيد معرفي ثقافي كسميح.. مرة يسألني عن تناص معين ورد في إحدى قصائدي يعانق جملة شعرية لشاعر فرنسي اسمه لوتريامون.. يقول لي: هل قرأته؟ أجيبه أنني قرأت نصف ديوان أناشيد مالدورور.. وتأثرت جدا بأجواء هذا الشاعر السريالي.. فيطلب مني أن أقرأه بعمق وأن أحاول أن أربط بينه وبين السريالية والرمزية باعتبارهما مدرستين فنيتين وشعريتين ظهرتا في القرن التاسع عشر في فرنسا.. وأن أعي الظروف التي أحاطت بهما.. لم يمنع تحمس سميح للجواهري من الإعجاب بشعراء كثيرين لقصيدة النثر العميقة والمركبة، وقد حدثني مرة أنه كان في أمسية شعرية في لندن برفقة نزار قباني.. فلفت انتباهه شاب لبناني يكتب قصيدة النثر ويحمل دفترا صغيرا فيه بعض القصائد التي أعجبته جدا، لدرجة أنه طلب من الشاعر الناشئ أن يصعد على المنصة ويلقي شعره إلى جانب الشعراء الكبار في ظل تململ نزار.. سميح لم يقل لي اسم هذا الشاعر الشاب، ولكنني بعد شهور اتصلت به وذكرت له اسما لشاعر لبناني شاب آنذاك.. عرفته بطريق الصدفة وكثرة المتابعات الشعرية على الشبكة العنكبوتية.. سميح لم يكن متأكدا حين قال لي ربما هو.. كان يحب أمل دنقل كثيرا رغم هناته العروضية في الكثير من قصائده الموزونة، ويقول إن شعلته انطفأت في أوج توهجها.. وكان يعتبر محمود حسن إسماعيل آخر الشعراء المصريين الكبار بعد أحمد شوقي.. ويكن احتراما خاصا لأحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر.. ولأنه كان التلميذ الوفي لبدر شاكر السياب الذي رثاه بمرثية أبوية عندما رحل في 1964، فإنه سار على نهجه التجديدي ولم يجدد إلا على أساس الموروث الشعري العربي.. فلم يتخل حتى أواخر أيامه عن القصيدة العمودية المكتوبة بنفس حداثي جميل.. وكثيرا ما كان يفتخر بمديح الناقدة الفلسطينية العريقة سلمى خضراء الجيوسي له بأنه بتجرته الشعرية المفتوحة على تحولات كثيرة وتجريب متنوع يشكل أبهى صورة لتجليات الحداثة الشعرية العربية على الإطلاق. أكثر ما كان يميز الشاعر سميح القاسم في أمسياته الشعرية حضور روح الدعابة والنكتة والثقافة العامة إلى جانب الشعر الرصين ذي المعاني الإنسانية العميقة والروح الوطنية في إلقائه الهادر كأنه على قمة الأولمب.. كان قادرا على جذب انتباه الجمهور للشعر وإثارة كوامن فرحه وحزنه وتأمله وتتبعه لآثار الجمال بقصائد طازجة وطالعة من خميرة الحياة كالزنبق الحار. بلغة أخرى كانت مهمته إصلاح الخراب الذي يجتاح العالم بالشعر.. أو بناء ما ينهار من روح الحياة بالورد. قصيدة سميح القاسم هذه لا تفارق بالي منذ رحيله.. لا لحرارتها وجمالها وعفويتها وشعريتها فحسب، بل لأنها أول قصيدة أحفظها له وأنا ربما دون العاشرة من عمري أتلمس بعيني وقلبي طريق الشعر.. كان التلفزيون السوري يذيعها بحماسة في بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى. خلو الشهيد مكفنا بثيابه... خلوه في السفح الخبير بما به لا تدفنوه.. وفي شفاه جراحه... تدوي وصية حبه وعذابه هل تسمعون؟ دعوه نسرا داميا... بين الصخور يغيب عن أحبابه خلوه تحت الشمس تحضن وجهه... ريح مطيبة بأرض شبابه لا تغمضوا عينيه إن أشعة... حمراء ما زالت على أهدابه وعلى الصخور الصفر رجع ندائه... يا آبها بالموت لست بآبه خذني إلى بيتي، أرح خدي على... عتباته.. وأبوس مقبض بابه خذني إلى كرم أموت ملوعا... ما لم أكحل ناظري بترابه سميح القاسم كان صديقي.. أقولها الآن بصدق.. شاعر عالمي كبير متمرس ومجرب فذ يصادق إنسانا بسيطا مهتما بالشعر من عامة الشعب ويقاسمه القهوة ويتحدث معه بعفوية تامة في أول لقاء عفوي بينهما.. كان معي كاتب صديق في نحو الستين من العمر يجامله سميح بعفوية ومرح: راجع شباب.. نضحك ثلاثتنا لدماثة روحه.. كنت أنشر حينذاك في جريدة نصراوية، وكنت أحمل العدد الأخير منها وفيه قصيدة منشورة لي.. يطلب مني أن يقرأها وبعد ذلك يقول لي: نمر قصيدة جميلة جدا، ولكن انتبه هنا في هذا البيت خلل عروضي طفيف.. الأفضل أن تحذف حرف الواو لكي تتسلسل موسيقى الشطر الشعري.. كنت أظن نفسي الخليل بن أحمد حينها.. ولكنه علمني برفق كيف ألتقط اللحظة الموسيقية وأوظفها في القصيدة.. منذ اتصالي الأول به كانت هناك لغة روحية مشتركة بيننا.. اليوم قدمت واجب العزاء لذوي الراحل العزيز وبكيت في الطريق إلى الرامة الشماء التي تستند على سفوح جبل حيدر كالعنقاء.. بكيت لسببين.. أولا لأنني عانقت روح الشاعر المرفرفة في فضاء قريته الرامة.. وثانيا لأنني لم أستطع أن أودعه حيا وهو يذوي كمجرة من الحدائق والنجوم حين قال لي في آخر حديث هاتفي بيننا: نمر خلينا نشوفك. ذكر لي مرة أنه ذكرنا نحن شعراء فلسطين الشبان في قصيدة جميلة فيها سخرية لاذعة من الموت بعنوان «المستشفى» يواجه بها مرضه، وقال بأن كتابتنا تكفكف دموعه. سنقول يوما ما بافتخار إننا عشنا في زمن سميح القاسم الشعري.. كما يتحدث الإسبان عن لوركا، والتشيليون عن بابلو نيرودا، والفرنسيون عن بودلير وملارمه. سنتحدث عن شاعرنا الحبيب سميح القاسم الذي كان بالإضافة إلى كونه شاعرا عظيما إنسانا عظيما أيضا يمتلك حسا إنسانيا يبلغ أقصى درجات النبل والكمال والتواضع.. سميح يشرف وطنا ويشرف أمة بأكملها. سميح القاسم كان السرحة التي آوت عصافير أرواحنا ولا تزال.. والغيمة الناصعة التي ظللتنا بحب وحنو. فيما قلبه يقبض على شمس الشعر الفلسطيني برهافة فراشة.