كان لي حديث جرى مصادفة مع الدكتور عبدالله الغذامي حول ضبط سطر من قصيدة محمود درويش مديح الظل العالي، وجرنا الحديث إلى التدوير-وصل الشطر أو السطر الشعري بما يعد عروضيا. وقد أبدى الغذامي رأيه حول التدوير، كونه من الضرائر الشعرية وأشار إلى رأي نازك الملائكة حول تدوير السطر في شعر التفعيلة-الشعر الحر كما كانت تسميه. فعندما طرحت نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر الحديث) رؤيتها حول قصيدة التفعيلة، وضعت شروطا لهذه القصيدة، منها عدد التفعيلات في السطر الواحد. ورغم معارضة عدد من النقاد لهذه الشروط وتجاوز الشعراء لها، إلا إن التجربة الشعرية اقتربت من رؤية نازك الملائكة في شعر الخمسينيات والستينيات عند السياب والبياتي وصلاح عبدالصبور ونزار قباني وغيرهم. لكن في مرحلة السبعينيات وما بعدها شهدت قصيدة التفعيلة تحولا نوعيا خصوصا عند محمود درويش وسعدي يوسف في ما يخص طول السطر الشعري خصوصا. وقد أشار الدكتور الغذامي إلى جانب مهم من تجربة محمود درويش يشير فيها تقنية الكتابة التي يتقاطع فيها الشعري والنثري يتفرد فيه بين شعراء جيله. فالتحول الذي تم كان يحمل مخالفة تامة لشروط نازك الملائكة التي طرحتها في أوائل الستينيات. قبل مناقشة رأي نازك الملائكة في التدوير والتحول الفني الذي جرى في تجربة التفعيلة منذ السبعينيات، علينا مراجعة بعض المفاهيم العروضية الأساسية. فالشعر يقوم عروضيا على وحدات إيقاعية تسمى الواحدة منها تفعيلة. ففي القصيدة العمودية يقوم كل وزن شعري على عدد من التفعيلات مقسمة بالتساوي بين شطري البيت الشعري، بحيث يسمى الشطر الأول الصدر وتسمى آخر تفعيلة منه (العروض) والآخر العجز وتسمى آخر تفعيلة منه (الضرب). وعندما يتصل صدر البيت مع عجزه عروضيا، بحيث يختفي العروض، يسمى ذلك (الوصل) أو (التدوير). وعندما استحدث الشعراء قصيدة التفعيلة، تم التخلي عن الشطرين الصدر والعجز، واستبدلا بالسطر. ونتيجة لذلك، أصبح من الممكن أن يتباين عدد تفعيلات السطر الواحد وتنوع القوافي نوعا وعددا. كانت نازك لا ترى أن يزيد عدد التفعيلات في سطر قصيدة التفعيلة عن عدد تفعيلات البيت الواحد في القصيدة العمودية التامة، وأن يستقل كل سطر عن الآخر عروضيا. لذا كانت تعد التدوير عيبا، بحيث يتصل سطران شعريان عروضيا. لكن ما ظهر على يد شعراء كثر، هو أن تجاوز عدد التفعيلات ما قررته نازك بمراحل حتى تجاوز الاتصال العروضي بين الأسطر أكثر من صفحة، أنظر مثلا جدارية محمود درويش. هذا التحول في كتابة شعر التفعيلة له دلالة عميقة حول فهم تجربة التفعيلة قل من يلتفت إليها. فلماذا عابت نازك الملائكة التدوير في شعر التفعيلة، وهل التدوير من عيوب شعر التفعيلة فعلا، أم هو ضرورة تختص بالشعر العمودي فقط؟ إن التدوير، كما سأبين تباعا، وهم جاء نتيجة لقياس خاطئ بين القصيدة العمودية التي ظن أنها أصل وهي فرع، مع التفعيلة التي ظن أنها فرع وهي أصل. فقد أخضعت نازك الملائكة الدائرة الكبيرة وهي التفعيلة لشروط الدائرة الصغيرة وهي القصيدة العمودية، بحيث إذا التزمت قصيدة التفعيلة بهذه الشروط تقترب من القصيدة العمودية. ونتيجة لذلك يكون التجديد لا معنى له. والصحيح إن التدوير لا وجود له أصلا في شعر التفعيلة وذلك لعدة أسباب: أولا، جاء التدوير في الشعر العمودي نتيجة وجود شطرين في البيت الشعري، ومع انعدام الشطرين ينعدم وجود التدوير. كان القياس الخاطئ عند نازك إن السطر الشعري يماثل الشطر البيتي، وهو قياس في غير محله، لأن الالتزام بعدم التدوير من كمال الالتزام بقواعد البحور الخليلية التي لا تنطبق على قصيدة التفعيلة ابتداء. ثانيا، إن التدوير غير متحقق في التفعيلة لعدم الاتفاق على عدد تفعيلات السطر الواحد. فمع عدم وجود عدد محدد من التفعيلات لكل سطر، ينتفي وجود التدوير لأن السطر يمتد إلى أن ينتهي بعروض أو قافية. ثالثا، إن صف قصيدة التفعيلة ليس له دلالة عروضية معتبرة بعكس صف القصيدة العمودية. فإن صف القصيدة العمودية يدلل على العروض والضرب بالفصل بين نهاية كل شطر عن الآخر. إنما في شعر التفعيلة، فصف القصيدة يكون اعتباطيا، وليس له دلالة عروضية. حيث من الممكن أن يتصل السطر التفعيلي عروضيا على مدى أكثر من صفحة دون أن تتصل الأسطر بينها-أي أن يصف الشاعر السطر العروضي الطويل موزعا على عدة أسطر في الصفحة. خلاصة ما سبق، إن ليس للتدوير وجود حقيقي في شعر التفعيلة. إنما يمكن استخدام مصطلح التدوير تجاوزا عند التعبير عن اتصال الأسطر عند التدقيق في وزن قصيدة التفعيلة عندما لا يلتزم الشاعر بصف القصيدة عروضيا، وهو ما يحدث غالبا في قصائد شعر التفعيلة. إن الناظر إلى شروط نازك الملائكة وتحولات قصيدة التفعيلة، سيرى إن شعر التفعيلة يحمل طاقة فنية ذهبت أبعد من رؤية المؤسسين التي كانت متأثرة بتراث القصيدة العمودية القوي. فإن هذه الطاقة تحتاج إلى عمل شعري تراكمي يستغرق أجيالا وعقودا طويلة قبل أن تستنفد، وقبل أن تصل التجربة بمجملها إلى مرحلة النضج.