منذ صدور رواية «دفاتر دون ريغوبيرتو» في العام 1997، توالت أعمال عديدة لماريو بارغاس يوسا، ولكن أحداثها جميعها كانت تدور في مناطق بعيدة عن بلاده البيرو. فأحداث «حفلة التيس» (200) تدور في جمهورية الدومينيكان في ظل دكتاتورية تروخييو، و«الفردوس على الناصية الأخرى» (2003) تدور أحداثها في باريس القرن التاسع عشر وفي جزر المحيط الهادي النائية، وفيها يتابع حياة الفنان بول غوغان من جهة وجدته فلورا تريستان من جهة أخرى. ثم أتت بعد ذلك رواية «شيطنات الطفلة الخبيثة» (2006) وقد جال فيها المؤلف على مناطق كثيرة في العالم، من باريس إلى لندن وطوكيو ومدريد. أما روايته السابقة «حلم السلتي» (2010) التي صدرت قبيل نيله جائزة نوبل؛ فذهب فيها إلى أعماق قلب الظلام في الكونغو البلجيكي. في روايته الأخيرة «البطل المتكتم»، يعود بارغاس يوسا إلى بلاده مرة أخرى، وبالتحديد إلى مدينة بيورا المحببة لديه، حيث أمضى بضع سنوات من طفولته، وإلى العاصمة ليما. وهما المدينتان اللتان تشكلان الإطار المكاني لرواياته البيروفية السابقة، منذ «المدينة والكلاب» (1965) حتى «دفاتر دون ريغوبيرتو»، مروراً ب «البيت الأخضر» (1965)، و«محادثة في الكتدرائية» (1969)، و«بانتاليون والزائرات» (1973)، و«الخالة خوليا والكويتب» (1977)، و«حرب نهاية الزمن» (1981)، و«قصة مايتا» (1984)، و«من قتل بالومينو موليرو؟» (1986)، و«امتداح الخالة» (1988)، و«ليتوما في جبال الأنديز» (1993). صحيح أن أحداث الرواية الأخيرة تدور في البيرو، ولكنها بيرو مختلفة عن تلك التي تدور فيها أحداث رواياته السابقة. إنها بلاد تشهد ازدهارا اقتصاديا وتحديثا واسعا، وهو ازدهار إيجابي يتبدى في الفرص الكثيرة والكبيرة المتوافرة من ناحية، ولكنه يجلب معه من ناحية أخرى مشكلات ومخاطر إجرامية لم تكن معروفة من قبل. يروي لنا يوسا في هذه الرواية قصتين متوازيتين لشخصيتين تشكلان المحورين الرئيسيين لحبكة تتطور بنبرة ميلودرامية ممتعة ومفاجئة، مع وقائع أخرى قاسية ومحزنة تؤثر على الشخصيتين الرئيسيتين. هنالك من جهة فيليثيتو ياناكيه، الذي يبدو جليا أنه شخصية مستمدة من حالة حقيقية. فهو رجل أعمال صغير، عصامي ومنظم ومحبب، استطاع بعمله الدؤوب وجهده المتواصل أن يؤسس شركة نقل صغيرة في مدينة بيورا شمالي البيرو. يحاول أن يعيش حياة هادئة بعيدا عن الأضواء، ولكن حياته تهتز فجأة بصورة عنيفة حين يتلقى رسالة ابتزاز. وهناك من جهة أخرى، وفي المسار الآخر، إسماعيل كاريرا، رجل الأعمال الكبير والناجح الذي يملك شركة تأمين كبرى في العاصمة ليما، ويدبر خطة لتوجيه ضربة انتقام مفاجئة لابنيه الكسولين البليدين اللذين يتمنيان رؤيته ميتا ليرثاه. الشخصيتان كلتاهما متمردتان ومتكتمتان، وكل منهما يحاول، على طريقته، أن يتولى قيادة مصيره بنفسه. كلاهما يواجه تحديا في الأحداث، فيعمد إسماعيل إلى مواجهة التحدي بتحد آخر وبخروج على تقاليد طبقته. بينما يتمسك فيليثيتو ياناكيه ببعض المثل الأخلاقية الموروثة لمواجهة الابتزاز. محاولة الابتزاز تفقد فيليثيتو توازنه وهو في الخامسة والخمسين. لقد ترعرع متقيدا بحذافير نصيحة قدمها إليه أبوه قبل موته: «لا تسمح لأحد بأن يذلك يا بني. هذه النصيحة هي الإرث الوحيد الذي أتركه لك». وعندما تصله رسالة الابتزاز لا يدري إن كان عليه أن يأخذ المسألة على محمل الجد أم لا، ولكن الأمر الواضح لديه هو أنه لن يرضخ لأولئك الأوغاد ولن يقدم إليهم سنتا واحدا وسيحافظ على المبادئ التي وجهت خطاه طيلة حياته. وبدل أن يرتعب وتخمد عزيمته، يقرر فيليثيتو الإمساك بالأعنة وتحدي المبتزين علنا وأمام الملأ، مثيرا بذلك تعاطفا اجتماعيا يعرض سلامته وسلامة أحبائه للخطر. وفي الوقت نفسه، ولكن في المسار الآخر، نتايع الخطة المفاجئة التي يحيكها إسماعيل للانتقام من ابنيه. ومن أجل أن ينفذها بنجاح يحتاج إلى مساعدة من أقرب أصدقائه إليه: دون ريغوبيرتو، المدير في شركته والذي يهيئ نفسه لتقاعد مبكر يأمل أن يستمتع فيه بشيخوخة «طويلة، وثقافية، وسعيدة». غير أن اقتراح إسماعيل يؤدي بدون ريغوبيرتو إلى تأجيل خططه في التقاعد، ومواجهة رد فعل ابني إسماعيل المتشنج وغير المتوقع، «الطفيليان اللذان يلحقان المهانة باسم أبيهما»، بينما هو يشعر بقلق كبير على سلامة ابنه (فونتشيتو) وصحته الذهنية. قبل التوغل في مضمون «البطل المتكتم»، نبادر إلى إبراز تقنيتها المتقنة، مفرداتها الغنية والدقيقة وصياغتها المشغولة بعناية، وحواراتها منسوجة بإحكام على مقاس الشخصيات بأصواتها الخاصة والمميزة، وهي أمور ليست غريبة على بارغاس يوسا الذي يعتبر أستاذا ومرجعا في فنون السرد وتقنياته. من الواضح تماما أن يوسا يحاول في هذه الرواية الهروب من استثنائية الحدث الملحمي والاستقرار في ما هو يومي لتكريم أبطال متواضعين (ممن يتواجدون في كل زمان ومكان) يقفون في مواجهة موجات الفساد السائدة بتمسكهم بالتعقل والوقار وصولا إلى تحولهم إلى ثوريين بقوة رفضهم للفساد وعدم اندماجهم فيه. فالبطولة ليست وهما لا يتحقق إلا في القصص الخيالية، بل هي إمكانية متاحة يمكن ولوجها عبر مآثر صغيرة يحافظ الفرد العادي من خلالها على استقامته ونزاهته. فالحضارة كما يفكر دون ريغوبيرتو في سياق الرواية تتمثل في «حصون صغيرة تنتصب على امتداد الزمان والمكان لصد هجمات متواصلة تشنها قوى غرائزية عنيفة، متخلفة الذهن، قبيحة، مدمرة، بهيمية تهيمن على العالم». أبطال من هذه الطبيعة يكونون من جهة مثل فيليثيتو ياناكيه، رجل الأعمال المتواضع في بيورا الذي يقاوم ابتزاز جماعة مافياوية مفترضة، أو يكونون من جهة أخرى مثل رجل الأعمال الكبير إسماعيل كاريرا وصديقه ريغوبيرتو اللذين يحاولان كبح جشع ابني كاريرا، ميكي وإسكوبيتا. وبين هؤلاء وأولئك تمر شخصيات حميمة معروفة شكلتها مخيلة بارغاس يوسا في أعمال روائية مثل دون ريغوبيرتو نفسه، وزوجته دونيا لوكريثيا وابنه فونتشيتو الفريد الذين عرفهم قراء يوسا في روايتي «امتداح الخالة» و«دفاتر دون ريغوبيرتو». ومع أن فونتشيتو صار الآن فتى مراهقا، إلا أنه مازال مثيرا للقلق. ونلتقي في هذه الرواية أيضا بالرقيب ليتوما وقد عاد من منفاه في جبال الأنديز إلى مدينته بيورا التي أبعده عنها الفساد. وسط الاختلاطات والخلاقية في أزمنتنا الحديثة، يلجأ الروائي إلى حالات مستخرجة من العالم اليومي كي يثبت أن البطولة ليست حصيلة المعارك الكبرى أو لحظات التاريخ الفاصلة، بل يمكن أن لها أن تنبثق وتظهر من الوعي والضمير: بالصمود في مواجهة الابتزاز أو التقاليد الاجتماعية البالية، وكلاهما تصرف ينم عن الشجاعة. وهو ما يحدث لفيليثيتو ياناكيه وإسماعيل كاريرا. فأولهما قاوم الابتزاز الذي تحول إلى تجارة مزدهرة في المجتمعات المعاصرة، والثاني، وهو عضو في مجتمع الصفوة في البيرو، يقرر الزوج من عاملته المنزلية، محطما بذلك كافة الأعراف والتقاليد الأرستقراطية.