شخصيا لدي ذكريات رائعة مع المدن الصناعية التي كان الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، ينظم لها رحلات صحفية من أقصى المملكة إلى أقصاها. وقتها كنت محررا صغيرا تبهره المكائن وخطوط الإنتاج وملابس العمال وتفاؤل منسوبي وزارة الصناعة الذين يوزعون ابتساماتهم وهداياهم علينا طوال الرحلة. ثم إنني ذاكرت في المرحلة الثانوية بحدائق المدينة الصناعية في الرياض، وشممت كل الروائح التي تضخها المصانع هناك، مما جعل لها في جوفي تقديرا خاصا. اليوم، بعيدا عن ذكرياتي العطرة هذه، تقول هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية (مدن) إن استثمارات 5400 مصنع تشرف عليها الهيئة تقدر بنحو 450 مليار ريال، بينما قالت مصادر اقتصادية إن القطاع الصناعي جلب نحو 1.2 تريليون ريال للاقتصاد السعودي منذ إنشاء (مدن) عام 2007. وفي رأي رئيس اللجنة الوطنية الصناعية، المهندس سعد المعجل، فإنه يجب فصل الصناعة عن التجارة واستحداث وزارة خاصة بكل قطاع. وأنا، بغض النظر عن الجانب العاطفي في مساري المهني القديم، كتبت من قبل أن الصناعة وليس غيرها هي المعول عليها لبناء قواعد التنمية المستدامة الحقيقية، لأن كل الدول التي نهضت بمقوماتها وشعوبها اعتمدت على التصنيع والصناعة التحويلية بالذات. أي الصناعة التي تحقق قيما مضافة للاقتصاد لكونها (تدور) محليا أثناء عملية الإنتاج وأثناء عملية التسويق. وكنت، قبل سنوات، توقعت أن تساعد الهيئة العامة للاستثمار في تحقيق هذا الهدف، هدف المشاريع الصناعية الاستراتيجية التي توفر بيئة وأسباب التنمية المستدامة. لكن الهيئة ذهبت في اتجاه آخر غير ما توقعنا والصناعة كوزارة اندمجت في التجارة فضاعت (البوصلة) بشكل أو بآخر. الآن نريد أن نجد هذه البوصلة ونعيدها إلى سيرتها الأولى أو أفضل. أي إلى وزارة مستقلة للصناعة تعنى ببناء صناعات استراتيجية، أساسية وتحويلية، توظف ملايين الشباب وتنتج ملايين السلع للاستهلاك المحلي وللتصدير. وأظن أن تجربة (وزارة التجارة والصناعة) كافية إلى الآن لنحكم على النتائج فيما يتعلق بالمجال الصناعي، حيث سحب التجار الوزير والوزارة بعيدا عن الصناعة والصناعيين، فنترك إذا للتجارة وزيرها الناجح والنشيط ونفتح باب الوزارة القديمة الجديدة: وزارة الصناعة.