الكتابة تقنية واستراتيجية للتعبير، تحاط عمليتها بتاريخ من القراءة وطموح جامح من طرف الكتاب للاستقلال عن تأثيرها، جينيالوجيا الكتابة عوالم من الكلمات والأسرار، من التجلي والإضمار. وفي إطار تدوين تاريخ الكتابة وسيرة الكاتب، اقتربنا من مجموعة من الأدباء والأديبات، ففتحوا لنا قلوبهم في هذه الحوارات الشيقة: ما هو نصك الأول المنشور، وكيف تنظر إليه الآن؟ - كان نصا نثريا بسيطا شبيها بالشعر، لم أعد احتفظ به. ماهو المنبر الأول الذي نشرت به، وكيف كان إحساسك؟ - كان المنبر الأول جريدة «صوت الأحرار» وهي من الصحف الرئيسية آنذاك، نشرت فيها نصي الأول الذي أشرت إليه، لم يكن لي علم بنشره أو يخبرني أحد، ولكن الصدفة شاءت أن أطلع عليه حين عدت إلى البيت ومعي بعض الطعام الملفوف بجريدة هي جريدة صوت الأحرار المنشور فيها النص. كان ذلك مفاجأة لي حقّا، مفاجأة لا تكاد تصدق. في هذه الجريدة نفسها نشرت بعد فترة قصيدة ومعها مفاجأة أخرى، مقدمة كتبها الشاعر الكبير سعدي يوسف، ومما أتذكره من هذه المقدمة: «إننا نتذوق أحيانا في شعر عبدالكريم كاصد ذلك الطعم النادر العتيق» كان ذلك سنة 1961، عندما كان لي من العمر خمسة عشر عاما، كان فرحي في الحالتين كبيرا. ما هو الكتاب الذي حفزك على الكتابة؟ - الحياة هي المحفز دوما إلى الكتابة، ولكن هذا لا ينفي دور الكتب في التأثير فيما بعد، فقد ألهمني أكثر من كتاب في كتابة عدد من قصائدي: قصص سالنجر، «السقطة» و«الإنسان المتمرد» لألبير كامو، «المعلم وما رغريتا» لبولغاكوف، «موديراتو كانتابيل» لمارغريت دورا، بعض روايات نجيب محفوظ، والكثير من الكتب والقصائد الأخرى. ما هو الكتاب الذي تمنيت كتابته؟ - كنت نهما للقراءة منذ طفولتي، لم أتوقف عند كتاب معين، وقد كان لعلاقتي بالحركة اليسارية في العراق والتحاقي بقسم الفلسفة في جامعة دمشق منذ سن مبكرة، أثرهما في الحد من حماساتي المتطرفة لبعض الكتب أو الأفكار، وهذا ما جعلني كثير الحذر والتردد في الانجرار وراء التقليعات الشائعة، أو التقييمات الفردية الصاخبة التي كنت أراها شائعة لدى الكثيرين من الشعراء والكتاب من جيلي أو الأجيال الأخرى، مع ذلك كنت مفتونا بكتابات المتصوفة والكثير من كتاب العالم وشعرائه: رامبو، بودلير، طاغور، إليوت، نيرودا، كفافي، بالإضافة إلى الكثير من شعراء العرب البارزين قدامى ومحدثين. لي تجربتي الخاصة التي لا تشبهها تجربة أخرى، والتي لا يمكن أن أستعيرها أو استعارة أشكالها من تجارب أخرى، لا لأنها ذات غنى هائل أو فقر مدقع وإنما لأنها تجربتي أنا بفقرها وغناها وتفاصيلها الغريبة أحيانا، لا على القارئ البعيد وإنما على القارئ القريب ابن بلدي الذي يجهل حتى محيطها، كتجربة طفولتي في الجراديغ (مكابس التمور) في البصرة مثلا بأجوائها وناسها وتفاصيلها وغرابة حوادثها التي عكستها مجموعتي الثانية «النقر على أبواب الطفولة». من هو الكاتب الذي يتجول في عروق كتابتك؟ - أين هو الكاتب الذي يستطيع أن يتجول وحده في عروق كتابتي، وقد قطعت هذه العروق من جسدها وتجولت فيها تجارب تتصادم مع بعضها بعضا، وتتلاقى هناك في البعيد وهي تكاد تختفي لتعود ثانية أشد اصطداما.. تجارب موروثة ومكتسبة منبئة دوما بما هو أشد اصطراعا.. تجارب لا أفهمها أنا نفسي أحيانا، وقد لا أفهمها إلا حينما أكتب لأجد ما يفزعني أو يدهشني، وكأن شخصا أخر هناك يكتب لي، وقد أنكرها وهي الأصدق مني في الكشف عن نفسي، ما من كتاب أو كاتب يمكن أن يكون مرآة لي. لقد تهشمت المرآة منذ زمن حين دخلنا منفى ولم نرجع منه حتى هذه اللحظة التي أنعي فيها تجاربي. ما هو الكتاب الأول الذي نشرته؟ - أول كتاب صدر لي، من بين كتبي التي تجاوزت الأربعين كتابا، هو مجموعتي الشعرية الأولى «الحقائب»، أصدرته حين أشرفت على الثلاثين من عمري، أي كان خلاصة لتجربتي الشعرية آنذاك. اخترت قصائده من بين عشرات القصائد ليأتي الديوان شبيها بالمختارات وإن كان موضوعه واحدا هو السفر. ما هي ظروف النشر التي رافقته؟ - يبدو أن الاستثناء والصدفة كانا يلاحقانني في إصداراتي الأولى: نصا أو ديوانا، فقد حدث أن مر بالبصرة صديقي الروائي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل قادما من الكويت في طريقه إلى بيروت، وكان ذلك أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، فطلب مني أن أزوده بمجموعة لي للطبع، ولتجنب مفاجآت الحرب فضل أن تكون المجموعة بخط اليد ليسهل تصويرها ومن ثم طبعها فعهدتها إلى صديق مبدع هو الفنان والشاعر هاشم تايه. وفي عودته حمل إلي إسماعيل نسخا من الديوان المطبوع وهو يتألق بخط صديقي العزيز هاشم. في السنة الماضية شهدت هذه المجموعة طبعتها الثالثة. مازلت حتى الآن أسمع أصداء محبتها تصلني بين فترة وأخرى، ولعلها مصادفة أنني كلفت قبل بضعة أيام من قبل جريدة الأخبار اللبنانية أن أكتب شيئا عن هذه المجموعة بالذات باعتبارها كتابي الأول. ماذا تكتب الآن؟ - قبل شهرين تقريبا أنجزت كتابا عن رحلتي إلى العراق وإيران ومصر، وأنا الآن أواصل تأليف كتاب آخر هو عبارة عن تأملات في الشعر والحياة، سأدرج بعض النصوص من أحدهما تاركا لكم اختيار ما ترونه مناسبا. هل تفرض عليك كتابتك نوعا من الطقوس؟ - لا طقوس لدي في الكتابة فقد أجدني أحيانا في الشارع أردد مع نفسي صامتا أبياتا ما. ما هو المكان الذي تحب أن تكتب فيه؟ - أحب الأمكنة لدي للكتابة، بيتي أو ما يشبهه: غرفة أستأنس بها في فندق أو بيت قريب لي في أسفاري لكن هذه الرغبة لم تتحول يوما إلى طقس، أو رغبة تستحيل تسلطا لا أمارس غيره.، فالشارع والمقهى والباص، بل وحتى الطائرة يمكن أن تكون موضعا للكتابة. ما هو تعريفك للكتابة؟ - لم تعد الكتابة تعريفا لأنها أصبحت جزءا من وجود يتجاوز ما هو شخصي إلى ما هو أوسع لتحدد بها الأشياء وليس العكس، على الرغم من أن الكتابة لا توجد إلا بهذه الأشياء، وأنها على اتساعها قد تتجاوز ما هو موجود أيضا إلى ما هو غير موجود، بل إلى ما هو نقيض الوجود من عدم تحدق فيه وترفضه أو تحتضنه ربما. وهل لها جدوى الآن؟ - لم يعد هذا السؤال ذا جدوى لي منذ أن تخطت الكتابة لدي ذاتها إلى معانقة ما هو أبعد مما هو موجود بذرائعه المجدية وغير المجدية. أتساءل أحيانا أي جدوى لحياتي من دون الكتابة، أو التفكير بها حتى وإن لم تتحقّق وحديثي هذا لا يتضمن بالضرورة الإشارة إلى قيمتها، ما أتحدث عنه لا علاقة له بأي تقييم للكتابة على الإطلاق.. ما أقصده هو الكتابة باعتبارها فعلا خاصا، بعيدا عن الآخر قارئا وليس الآخر كطرف قد يكون حاضرا في النص قبل قراءته، وقد يحضر قارئ فيما بعد، إن لم يكن بشخصه فقد يحضر عبر أحفاده، فما أكثر نصوصنا التي تتحدث عن أناس لم يستطيعوا القراءة والكتابة بسبب تخلف بلداننا وفوضاها الدائمة، أضف إلى أننا لا نملك الوسائل التي تمكننا من الوصول إلى هذا الآخر المجهول المغيب أساسا في إعلام غائب رغم حضوره، وغياب ثقافة رغم هيمنتها. هل حقّا الأدب في خطر؟ - لا أعتقد ذلك، فهو موجود مادام الإنسان موجودا، يحضرني هنا تودوروف وكتابه «هل الأدب في خطر؟». الخطورة ليست في الأدب نفسه، بل في المؤسسات المتخلفة، والإعلام الكاذب، والاتحادات الهزيلة، والمنافي المستمرة للكتاب والمثقفين، والمثقفين الرسميين. أي أن مشكلتنا مختلفة تماما عما تطرق له تودوروف في كتابه «هل الأدب في خطر؟». ليست مشكلتنا تكمن في الأساليب الأدبية والتيارات النقدية ومفارقتها للنص أو الواقع، بل هي تكمن في ما ذكرته من مؤسسات قائمة أساسا على التهميش، وكل ما هو نقيض للأدب الذي استحال في معظم بلداننا إلى مناسبات وجوائز عابرة، هي أقرب إلى التهريج، وسط أحداث جارية همشت الأدب وتقدمت مسيرتها البنادق والإعلانات. ماذا علينا أن نفعل من أجله؟ - أما ماذا علينا أن نفعله فهذه ليست مهمتنا وحدنا، بل هي مهمة قوى التقدم في مجتمعاتنا جميعا.. هذه القوى التي أصبحت هي ذاتها في احتراب ومحنة أيضا، إنها مهمة في غاية العسر. هل تحب أن توجه تحية شكر لشخص ساعدك في مشوارك الأدبي؟ - منذ الستينيات وأنا لم أمكث في بلدي سوى بضع سنوات لأشهد المنفى مرتين، وطوال هذه السنوات سنوات المنفى لم يكن يشغلني مشواري الأدبي بقدر ما كان يشغلني مشواري الحياتي: كيف أعيش؟ كيف أتجنب الموت أو الاغتيال؟ لقد هربت على جمل أياما في الصحراء، وحشرت مع عشرين هاربا إلى الكويت في تنكر ماء، وفي تجربة هي أقسى بكثير من تلك التي صورها غسان كنفاني في كتابه «رجال تحت الشمس»، وشهدت حروبا صغيرة وكبيرة في بغدادوبيروت، ومات لي في الغربة أحب الناس إلي، وكدت أختفي لولا أن تسعفني الصدفة، وتخفيت شهورا في بغدادوالكويت بهويات مزورة، وسجنت في المنفى أياما، وكنت مع غيري من مثقفين وأدباء عراقيين عرضة للتجاهل والإنكار ولا نزال، من قبل مؤسسات عربية، وحكومة متخلفة تعيش عصرا غابرا نسميها جوازا حكومتنا، لذا يبدو السؤال وكأنه موجه إلى غيري. هل لديك أمنية أدبية تحلم بتحقيقها؟ - القراءة أولا والكتابة تاليا. لا أرى أمنية أحب إلي من استمرار قدرتي على القراءة، بعد أن عانيت من مشكلات في العينين، وخضعت لعمليات عديدة لعلاجهما، ولعل من حسنات المنفى، إن كان ثمة حسنات للمنفى، هو قرب مسكني في لندن من أعظم مستشفى في العالم مختص بطبابة العيون هو مستشفى «مورفيلد» الذي جعلني على تواصل دائم مع القراءة، دون انقطاع، وهذه نعمة كبيرة وأمنية متحققة أحلم بتحققها دوما فهي أولا والكتابة تاليا. عبد الكريم كاصد ولد عام 1946 في البصرة. عمل مدرسا لعلم النفس واللغة العربية في العراق والجزائر، وفي عام 1978 غادر العراق إلى عدن حيث عمل محررا في مجلة (الثقافة الجديدة) اليمنية، وفي نهاية 1980 رحل إلى سوريا حيث عمل كاتبا ومترجما في الصحافة العراقية المعارضة، ثم رحل إلى لندن عام 1990، ويعتبر من أبرز الشعراء العراقيين. له أزيد من أربعين كتابا بين شعر وترجمة.