ودعنا بالامس شاعر التضاريس والأسئلة والخوف الذي يفيق في الظهيرة ..شاعرنا سيد البيد محمد الثبيتي عن عمرً يناهز 59 عام حيث تعرض لأزمة قلبية منذ عاما تقريبا ، وذلك بعد عودته من رحلة ثقافية إلى اليمن، ودخل في غيبوبة أنهت حياته بالأمس. ويعد الشاعر الثبيتي أحد الرموز الثقافية فترة الثمانينات من القرن الماضي. إذ شكل مع مجموعة كبيرة من الأسماء في المشهد الثقافي الجيل الرابع، من بعد الجيل الأول في الثلاثينات محمد حسن عواد وحمزة شحاتة ومحمد حسن فقي، والجيل الثاني في الخمسينات باب طاهر ومحمد العامر الرميح، والجيل الثالث في السبعينات غازي القصيبي وسعد الحميدين وأحمد الصالح. تطورت القصيدة نحو خيارات التفعيلة وقصيدة النثر وطرحت مواضيع الهوية والحرية وتقويض التراث الثقافي لإعادة خلق بديله، كما تسرب إلى قصائدهم تباين الالتزام العقدي (قومية وشيوعية) والهموم السياسية العربية فظهرت أسماء قوية في الشعر، مثل: فوزية أبو خالد، وغيداء المنفى (هيا العريني) ومحمد عبيد الحربي وعبدالله الصيخان ومحمد جبر الحربي، بالإضافة إلى مواصلة الجيل السابق لهم غازي القصيبي وسعد الحميدين وأحمد الصالح وعلي الدميني. كما طرحت القصة القصيرة في ذروة تجليها مع جار الله الحميد وحسين علي حسين. وقدمت الرواية بصورة تطرح الرومانسية القروية عند عبدالعزيز مشري وعبدالعزيز الصقعبي. ولكن لا بد من حديث عن الولادة والطفولة والبدايات.ورغم طرحه لخيارات القصيدة في التفعيلة وقصيدة النثر فقد واجهة الثبيتي اعتراضات حادة من النقاد والشعراء . كيف جاء هذا الشاعر؟ من وادي «الشروط» التابع لمركز لغب في محافظة بني سعد، بدأت رحلة الحياة والشعر لصوت يعد الأميز اليوم بين جيله. ولد محمد الثبيتي عام 1952 وتربى في أسرة متوسطة الحال بين أب وجد يقرضان الشعر ويعشقان القراءة. وفي مكتبة البيت الدينية نشأت علاقته الحميمة مع القراءة، ولم يكد ينهي المرحلة الدراسية الابتدائية حتى أجهز على كل الكتب المتوافرة في مكتبة الأب، ولم يفته أن يحضر محاورات الشعراء الشعبيين، وحفلات الرد ومسامرات والده وجده الشعرية، لتأسس اللبنة الأولى لعالمه الشعري. وعندما لاحظ والده نبوغه ونهمه المعرفي نقله إلى مكةالمكرمة، ليكمل تعليمه في كفالة إحدى جداته، ليظفر الطفل البدوي في رحاب الجدة والأقارب ببغيته من كتب تراثية ومجلات حققت له سلوة نفسية، عوضته الحرمان من أبويه وكانت جدته أول جمهور يعرض عليها مواهبه ويستعرض معها مهارته في قراءة السيرة الهلالية والزير سالم وعنترة. وخلال ثلاثة أعوام أتم دراسته في المرحلة المتوسطة. ولتأكيد العصامية خصص أوقات الإجازة للعمل مطوفاً للحجاج والمعتمرين في المسجد الحرام، مستغلاً مردودها المادي المتواضع في تأمين حاجاته وشراء الكتب. قصص وروايات وفي كل فرصة يعود فيها إلى أهله يمر بمكتبة السيد في الطائف، ليتبادل مع صاحبها كتباً أنهى قراءتها بروايات وقصص ودواوين ليحقق له السيد مبتغاه بأسعار زهيدة، بل ويخصه بما ينسجم وميوله بما يتوافر معه من ريالات وأحياناً بالمجان، لأنه تحول إلى صديق لرجل معرفي وماهر بنوعية الكتب الملائمة لذوق زبونه الجديد. ومن معهد المعلمين الثانوي في مكةالمكرمة، دشّن التجربة الشعرية عبر محاولات أولية خجولة، يذكر منها محاولته في السادسة عشرة من عمره حين كتب قصيدة معارضة لإحدى قصائد شوقي، منها إذا جاد الزمان لنا بيوم، وصالاً جاد بالهجران عاما، وبعد التخرج بدأت رحلة العمل معلماً في مدرسة المطعن في جازان، وهناك تشكّلت علاقة جديدة مع الأساتذة العرب الوافدين، وطرقت مسامعه معلومات ومعارف غير مسبوقة. ومن خلال مكتبة العقيلي كان تأمين زاده المعرفي. بعد عام انتقل إلى مكة معلماً في إحدى مدارسها، موشوماً بآثار الملاريا التي تشبثت به أعواماً. ثم عاد حنينه إلى الدراسة لتحصيل مؤهل أعلى، وهذه المرة بالانتساب لقسم علم الاجتماع في جامعة الملك عبدالعزيز،. وكان أصدر وقتها ديوانه الأول «عاشقة الزمن الوردي» (1982)، وأهدى نسخة منه لوزير المعارف حينها الدكتور عبدالعزيز الخويطر. ولرغبته في العمل الإداري طالب بنقل خدماته لإدارة التعليم في مكة، إلا أن هدفه لم يتحقق لحاجة المدارس في تلك الفترة للمعلمين السعوديين . في منتصف الثمانينات الحافلة بالكثير من الإبداعات في مجال الشعر والسرد والنقد، وفي عام 1986 أصدر الشاعر الثبيتي ديوانه «التضاريس»، وقد سبقه بعام الشاعر محمد جبر الحربي «ما لم تقله الحرب»، والشاعرة فوزية أبو خالد « قراءة في السر لتاريخ الصمت العربي»، كما صدر أحد الكتب النقدية الشهيرة «الخطيئة والتكفير» لعبد الله الغذامي. تضاريس وفي عام 1988 الذي أصدر فيه الشاعر عبد الله الصيخان ديوانه الأول «هواجس في طقس الوطن»، صادف صدور كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» لعوض القرني، وهو عبارة عن أوراق جمعها من تفريغ محاضرات تكفير وتشنيع للمثقفين السعوديين والعرب انتشرت بالكاسيت لسعيد الغامدي التي سيحولها إلى أطروحة دكتوراه بعنوان «الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها» (2005)، تكفر الأدب العربي خلال القرن العشرين كله! وتعود مرجعيات القرني والغامدي إلى محاضرات وكتب كل من الشيخ عبد الرحمن الدوسري الذي يكتب عن الماسونية واليهودية ويكفر الأدب العربي، بالإضافة إلى الشاعر الإسلامي المغمور أحمد فرح عقيلان الذي أدان الأدب العربي بعد عام 1967. ولم يسمح في حينها نشر أي رد تجاه هذا الكتاب في الصحافة السعودية، ولجأ الشاعر والناقد محمد العلي إلى نشر أربع حلقات في جريدة الوطن الكويتية. وقد هاجم الثبيتي لاحقاً في برنامج إضاءات عام 2007 عوض القرني وكتابه «الحداثة في ميزان الإسلام»، ووصفه بأنه جاهل بالشعر الحداثي. ثم قال في حوار آخر «كتاب القرني واجهه سقوط سحيق، ولو كنت مكانه لأخفيته وأحرقته، فما كتب عار أمام الأجيال المقبلة. ليس لأنه تناول الحداثة وكفّر الحداثيين، بل لأنه تجاوز سلوك تعامل المسلم الحقيقي العفيف والمترفع عن تصيّد أخطاء الناس، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده». حكاية المربد خلال هذه الفترة المشحونة سياسياً عربياً بالانتفاضة الفلسطينية 1987، وحرب العراق ضد إيران 1988/1980، وانتشار الحركات الإسلامية وضعت هذا الجيل في امتحان صعب تعاظم بحرب الخليج الثانية التي بدأت باحتلال الكويت من العراق 2 أغسطس 1990 ثم حرب التحرير 1991. وقد سئل الثبيتي عن هذا، بوصفه أحد رموز مهرجان المربد في العراق؟ - لم تنعكس بشيء، فمنذ زيارتي الأولى للعراق عام 1984، نذرت على نفسي ألا أكررها، على رغم محاولات جاهدة من الملحق الثقافي العراقي، واستعداده لتذليل جميع الصعوبات في سبيل معاودة المشاركة، إلا أن المرة الأولى كانت كافية لمعرفة حقيقة الوضع، ولم يسجّل علينا الوقوع في تدبيج المدائح، فالوضع كان بائساً ومنظر الصغار والصغيرات حين اصطفافهم على مدخل البصرة لانتظار القطار الذي يقل المثقفين أدمى قلبي، لأن معظم من في القطار لا يستحقون تلك الوقفة البريئة والناضحة بالبؤس والتعب، والبصرة شاحبة ومحاصرة بالمتاريس، وتلك كلها دلالات تؤذن بسوء ما سيأتي، فاكتفيت بما تولّد من قناعات، وبما سمعته من أصدقاء هناك، وعرفت حجم الزيف الذي كان يعيشه العراق. وكان وقع تلك المرحلة على الثبيتي أليما، إذ رشح لجائزة على ديوانه «التضاريس» من نادي جدة الثقافي ولكن حرم من الجائزة ليلتها. وقد علق على هذه الحادثة: «هناك صدمة طاولتني وأنا أحرم من حق رشحني له رواد بحجم علي الراعي ومحمد الشنطي، وتم بفعل فاعل تخريب ليلة عمر كنت عريسها، فخرجت من باب خلفي بعد أن رأيت مشاهد وملامح تنز بالتوتر والرغبة في خلق أزمة، وتحويل «التضاريس» إلى وثيقة إدانة. ولا أخفيك أنني شعرت بالانتصار، على الرغم من كل ما حدث، وتيقنت بأنني في مسار صحيح يتطلب المواصلة، وكان أن نلت بعدها جائزتين خليجية ومحلية، ويبقى الأهم تصاعد وتوسع جمهوري ومتابعي شعري منذ التسعينات حتى اليوم». وقد سئل عن تلك الفترة: هل اقتصر الأذى على حجب جائزة نادي جدة؟ - يا ليت، ولكنني فوجئت بعدها باستدعاء من جهة مسؤولة في مكة، وحضرت عندها مراراً، محاولين إرغامي على تفسير شعري بعد تأويله من جهتهم، مؤملين الخروج بإدانة، ولم أزد في ردي على أنني مسلم وشاعر، كبقية الشعراء العرب على مر العصور، إلا أن المفاجأة كانت في تحويلي إلى المحكمة، وكم أكبرت القاضي حين رفض نظر القضية، لأنها ليست من اختصاصه، وأعفاني من المثول بين يديه، ليحاول أحد أعضاء تلك الجهة الحصول على شرح موجز مني يتضمن إعلان مقصدي ونواياي، من خلال بعض نصوص «التضاريس»، ولم أنج منهم إلا بعد تلقيهم توجيهاً من أحد الفضلاء. بعد هذه الفترة غاب الثبيتي إلا من قصائد عابرة فاز بها بجوائز تكريم حين عاد عام 1997، ونشر قصائد جديدة منها «سيد البيد، موقف الرمال» التي أخذ عنها جائزة البابطين، ثم صدر ديوانه الأخير عام 2005 باسم القصيدة الفائزة. الثبيتي يتحدث أجاب عن أحد الأسئلة عن المحفز لكتابة نص جديد، فذكر.. - لم أستطع أن أقبض على اللحظة الأولى والوميض الابتدائي، إلا أن احتلال الفكرة لمشاعرك يولد الرغبة في الكتابة، مما يعني وجود خلق جديد، فأستسلم كلية، وأبدأ من خلال آليتي الخاصة، إذ لكل شاعر آليته. وهنا ربما أكشف سراً للمرة الأولى، إذ أبدأ بكتابة مقطع، وفجأة أجد على لساني كلاماً كأني سمعته من قبل، مما يجعلني أسأل الأصدقاء والمقربين ممن اشتهروا بزخم قراءة الشعر، إن كانوا سمعوا بهذا المقطع من قبل؟، خوفاً أن أنسب لنفسي ما ليس لي، وكثيراً ما توقفت في النص ومعه لزمن، وحدث هذا معي في «التضاريس» و «تغريبة القوافل»، و «المطر»، و«موقف الرمال موقف الجناس»، ومن بعد اعتدت على هذا الأمر وسهل تجاوزه. سئل عن كتاب «حكاية الحداثة» لعبد الله الغذامي، فقال: - لا يمكن أن تعد حكاية الغذامي دراسة أو توثيقاً، بل هي وجهة نظر شخصية من رجل له صيته، فجعل من نفسه مركزاً والبقية يدورون حوله، ولو كتب أي حداثي تجربته سيجعل نفسه مركزاً كما فعل الغذامي، وما نحتاجه هو الموضوعية التامة عند تدوين التجربة، خصوصاً أنها موجودة وقائمة ورموزها أحياء. فالمرحلة لم تغيّب تاريخياً حتى نجهد في البحث عنها ونستعيدها، فهي سيرة ومسيرة موثقة من خلال الأندية الأدبية والملاحق الثقافية، ومسجلة بالصوت والصورة، مما يعني سهولة الخروج بتصور كامل من دون الإذعان لادعاءات المدعين، بأنهم من صنعوا الحداثة ومن ساندوها، وذللوا صعوباتها بذاتية واجتهادات مؤسفة. محمد الثبيتي 2011-1952 مواليد مدينة الطائف. حصل على بكالوريوس في علم الاجتماع وعمل في وزارة التربية والتعليم. أعماله الشعرية (12005 1982) 1 - عاشقة الزمن الوردي 1982 2 - تهجيت حلما.. تهجيت وهما 1984 3 - التضاريس 1986 4 - موقف الرمال 2005. 5 - الأعمال الشعرية الكاملة 2009. مقاطع من شعره تغريبة القوافل والمطر ( التضاريس 1986) أدر مهجة الصبح صب لنا وطناً في الكؤوس.. يدير الرؤوس وزدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابة أدر مهجة الصبح واسفع على قلق القوم قهوتك المرة المستطابة أدر مهجة الصبح ممزوجة باللظى وقلّب مواجعنا فوق جمر الغضا.. ثم هات الربابة هات الربابة.. ألا ديمة زرقاء تكتظ بالدمى فتجلوا سواد الماء عن ساحل الظمأ.. ألا قمراً يحمّر في غرة الدجا ويهمي على الصحراء غيثاً وأنجماً.. فنكسوه من أحزاننا البيض حلةً ونتلو على أبوابه صورة الحمى.. ألا أيها المخبوء بين خيامنا أدمت مطال الرمل حتى تورما.. أدمت نطار الرمل فصنع له يداً ومد له في حانة الوقت موسما.. أدر مهجة الصبح حتى يئن عمود الضحى.. وجدد دم الزعفران إذا ما انمحى أدر مهجة الصبح حتى ترى مفرق الضوء بين الصدور وبين اللحى. الصبح ممزوجة باللظى وقلّب مواجعنا فوق جمر الغضا.. ثم هات الربابة هات الربابة.. ألا ديمة زرقاء تكتظ بالدمى فتجلوا سواد الماء عن ساحل الظمأ.. ألا قمراً يحمّر في غرة الدجا ويهمي على الصحراء غيثاً وأنجماً.. فنكسوه من أحزاننا البيض حلةً ونتلو على أبوابه صورة الحمى.. ألا أيها المخبوء بين خيامنا أدمت مطال الرمل حتى تورما.. أدمت نطار الرمل فصنع له يداً ومد له في حانة الوقت موسما.. أدر مهجة الصبح حتى يئن عمود الضحى.. وجدد دم الزعفران إذا ما