شاعرة لا تمتلك ذاكرة أخرى غير ذاكرة الكتابة والشعر، أقامت لها علاقة خاصة مع الشعر بعيدا عن تسمياته المختلفة، هي تنحاز للشعر المبدع فقط، وبين القصيدة الحديثة والعمل في الصحافة الثقافية تقفز مثل يمامة نقية تفتش عن الجمال والدهشة والهطول الأخاذ.. تلك هي الشاعرة سعدية مفرح، والتي حاورتها «عكاظ» في حوار خاص أكدت فيه أنه يصعب إصدار حكم على مشهد الربيع العربي، وتحدثت في عدد من قضايا الأدب والنقد والرواية، وتشير إلى أنها غير مقتنعة بمقولة إن «الرواية ديوان العرب الجديد». سأبدأ معك بالسؤال التقليدي عن البدايات ودهشتها، لكنه مهم للولوج إلى حوارنا.. حدثينا عن تلك الدهشة، وهل تذكرين أول قصيدة أينعت بين أصابعك؟ من الصعب على أي شاعر أن يتذكر أول قصيدة كتبها، تبدأ التجربة على شكل تهويمات منذ الطفولة، وأنا نشأت في أسرة الشعر زادها اليومي، حيث هي أسرة بدوية كان الشعر الشعبي موجودا فيها، لكنني لا أتذكر نفسي إلا وأنا أكتب، وكلما عادت بي الذاكرة إلى الوراء تذكرت نفسي وأنا أكتب حتى منذ الابتدائية، لكن ليست لي ذاكرة قبل الكتابة وأتذكر متى بدأ النشر، في المرحلة الجامعية كنت قد أعطيت أستاذا لي بعض القصائد كي يطلع عليها، لكنه أخذها ولم يرد علي، وكنت اعتقد أنها ليست صالحة للنشر، لكنه بعد فترة ناداني وأعطاني مجلة البيان وهي مجلة محكمة تصدر بالكويت، وأعثر في ذلك العدد على قصيدتي (التاء المربوطة)، وكانت قصيدة تفعيلة. وكدت أطير فرحا، وكانت لحظة دهشة بالنسبة لي، ومنها بدأت رحلة النشر وما زلت أطالب رابطة الأدباء بالكويت بمبلغ 20 دينارا (قالتها ضاحكة) لقاء نشر النص بمجلة البيان. في تجربة كل شاعر ثمة أسماء وشخوص بمن تأثرت سعدية مفرح في مسيرتها الإبداعية؟ في دراستي الثانوية كان كل شاعر عندي اكتشافا، وكان أخي الأكبر يحب المتنبي، وكنت في المرحلة الابتدائية أحفظ أبيات المتنبي وأنا لا أفقه منها شيئا، لكني كنت أشعر بعظمة هذه الموسيقى المتدفقة، فعشقت هذه الشخصية، ورافقتني طوال فترة بداياتي. أما لاحقا بعدما بدأت رحلة القراءة ثم الدراسة اكتشفت صلاح عبدالصبور وأمل دنقل وبدر شاكر السياب، وهذا الأخير كنت أبكي مع السياب، أيضا الشاعر فهد العسكر وعذاباته هذه الشخصية المظلومة في الأدب العربي. وكنت أثناء دراستي للأدب العربي أبحث عن صوتي الخاص، حتى لو كان خطأ ونشرت أول مجموعة شعرية في العام 1990م. تتابعين المشهد الإبداعي في الخليج العربي.. من يدهشك من الأسماء؟ دائما منحازة للشباب المبدعين، وأقول إن الذين يكتبون الآن هم أفضل من جيلي وجيلي أنا أفضل من الجيل السابق ،بمعنى أنه مرت أجيال انشغلوا بالأحداث الكبرى التي مرت والقضايا الكبرى، وأصبحت كالشعارات، فلا بد أن يكتب الشاعر عن فلسطين وعن الاحتلال دون أن نتذكر القضايا الإنسانية الأهم. لاحظت أن معظم قصائدك المنشورة أغلبها من شعر التفعيلة، وكذلك قصيدة النثر؟.. هل كتبت سعدية مفرح القصيدة العمودية؟ أنا كتبت شعر التفعيلة، وكتبت القصيدة العمودية، وكتبت حتى القصيدة العامية، وعدت الآن لأكتب قصيدة النثر لأثبت لنفسي وللآخرين أنني أكتب الشعر بدون مسميات، لم أعد أؤمن بهذه التسميات، وهي ليست من صنع الشعراء، ولا يليق بالشعراء أن ينشغلوا بها حتى المتلقي يجب ألا ينشغل بها، وهي جاءت من النقاد ومن صانعي الأدب، وهذه التسميات والأطر، وهي لا تليق بالشاعر أن ينشغل بها أستطيع الآن أن أقول إنني أكتب القصيدة ولا تهمني التسميات. يقول الدكتور جابر عصفور إن الرواية هي ديوان العرب الجديد.. كيف تنظرين لهذه المقولة النقدية وأنت شاعرة؟ نعم قالها أستاذي الذي درسني الدكتور جابر عصفور، وأنا غير مقتنعة تماما بها، ولكن دعنا نعترف بشيء أن الرواية في الآونة الأخيرة انتشرت انتشارا كبيرا بين أيدي المتلقي العربي فأوحت بتلك الفكرة، ولكن الشعر كان منتشرا قبلها هي لأنها فن جديد انبهر القارئ العربي والكاتب العربي والناقد العربي والإعلامي العربي، فبالتالي أصبح لها هذا الرواج، أنا مؤمنة بأنه لا يكون هناك أدب أو فن أدبي أو جنس أدبي قادر على إلغاء فن آخر. الأجناس الأدبية تتضافر فيما بينها وتتحد، لماذا الشعر يلغي الرواية، بالعكس نجاح الرواية يعزز نجاح الشعر أصلا، معظم الروايات الناجحة مكتوبة بلغة شعرية. كيف هي علاقتك كمبدعة مع النقد، أو لنقل بشكل آخر: هل أنصفك النقد الأدبي؟ أنصفني الحقيقة النقد، بل لعلهم بالغوا في الاحتفاء بتجربتي، أعتقد أنه لعملي الصحافي وأنا صحافية قبل أن أكون شاعرة، بمعنى أنني بدأت العمل الصحفي المحترف قبل أن أصدر ديواني الأول، والصحافة الثقافية لها فضل كبير علي، عكس كل الشعراء الذين يقولون الصحافة جنت على تجاربنا، أنا أقول: بالعكس، وبالتالي أتصور أن كثيرا من النقاد الذين يكتبون جاملوا زميلتهم سعدية مفرح، لا أريد أن يأخذني الغرور وأقول كل هؤلاء معجبون بتجربتي، أريد أن اعترف أن تجربتي لها خصوصيتها. لم تمر رحلتك للحج قبل سنتين دون أن تؤثر فيك على مستوى الكتابة، ما الذي بقي منها، وهل ستتحول تلك المقالات الروحانية المنشورة عن الحج إلى كتاب؟ بعد وجود عالم الطائرات والسيارات لم يكتب أدب الحج حاولت أن أرصد هذه الرحلة بلغة أدبية، واتصل بي الإخوة من نادي مكة الأدبي يريدون طباعة تلك المقالات التي نشرتها في جريدة الرياض بكتاب مستقل، وهي رحلة لن أنساها أبدا. كيف ترين المشهد الأدبي في المملكة العربية السعودية؟ منذ التسعينات وأنا أتابع المشهد في المملكة وحركة النقد في المملكة أقوى من المشهد الإبداعي، على عكس ما يحدث في دول الخليج الأخرى، بمعنى أنه لديكم حركة نقدية جميلة وواسعة جدا، وأنا دائما ألوم على نقادنا في الكويت الذين انكفأوا على بحوثهم الأكاديمية، واقتصر عملهم على قاعات الدراسة دون أن يلتفتوا للنص الجديد الذي يتبرعم بين أيدي الشباب، والحركة النقدية في المملكة صعدت بالنص، وصعدت بالرواية، وصعدت بالشعر أحيانا أصبحت تفوق الإنتاج، وفي السنوات الأخيرة أيضا أنا معجبة بالصعود الكبير للرواية، رغم أن البعض صار يلاحظ على إنتاج الروائيات أقول لهم: لا.. بل دعوا دائرة الرواية تتسع، وكلما اتسعت سيظهر الغث والسمين، وهذا في كل مكان، ونحن عندما نتحدث عن بريطانيا أن لديهم روايات عظيمة، فنجد أن لديهم عشر روايات عظيمة والفي رواية رديئة، ولكن لا يصلنا إلا الجيد ونقيس عليه فقط. تقولين إن الحضور النقدي في المملكة أقوى من النتاج الإبداعي.. لمن تقرأ الشاعرة سعدية من أولئك النقاد؟ طبعا، هناك أسماء مثل الدكتور عبدالله الغذامي، الدكتور سعيد السريحي، الدكتور معجب الزهراني، الدكتور سعد البازعي، الدكتورة سعاد المانع، الدكتورة فاطمة الوهيبي وهي رائعة جدا هذه الناقدة، وأيضا الناقد محمد العباس، والدكتور منصور الحازمي رغم أنه مقل. الربيع العربي قلب الشارع العربي رأسا على عقب قدم زعامات جديدة، وأسقط زعامات في تسارع شديد كيف تنظرين كمثقفة وكشاعرة خليجية لهذه الأحداث المتسارعة ومن أي زاوية تنظرين إليها؟ الوقت جدا مبكر لتقييم هذا الحدث الكبير، ولكن في المجمل مع كل حركة تحرك الساكن، وأنا أقول من الظلم أن نحكم على الربيع العربي، ومن الخطأ وصفه بأنه خريف وما إلى ذلك.. فالثورة الفرنسية مرت باضطرابات حتى استقرت وقدمت فرنسا المتحضرة فرنسا الجمهورية، وأنا مع الربيع حين يكون للشباب صوتهم وحين يكون لهم حريتهم، ومن حقهم أن يفشلوا أيضا لأن بعض الأنظمة جلست أكثر من خمسين سنة ثم فشلت حتى حق الفشل من حقهم أن يحصلوا عليه. أخيرا ما الجديد لديك من إنتاج خلال هذه المرحلة؟ أنا أعمل ما يسمى بالمشاريع المفتوحة، فلدي ديوان شعر جديد، ولدي كتاب في النقد، ولدي كتاب يوميات، ولدي كتاب أم كلثوم جميعها أعمل بها في فترات متباعدة، فحين أشعر بالملل من هذا الكتاب انطلق بالثاني... وهكذا، وأنا في كل يوم اشتغل على هذه الكتب. كذلك، أنا اشتغل على كتاب ويحتاج إلى وقت خاص وذائقة خاصة ومزاج (رايق)، وقد توقفت ثم رجعت ويحتاج فعلا إلى مزاج خاص عن سيدة الغناء العربي الفنانة الراحلة أم كلثوم، وأنا من عشاق الصوت الأصيل وحركة الغناء العربي مرت بمراحل وأنا لست ضد الأصوات الجديدة أو الموسيقى الجديدة والزمن ينتج فنانين، وينتج شعراء، وينتج أدباء ورسامين، ولا يمكن أن ننقل نفس القيم الفنية التي مضت، ننقلها إلى هذه الأجيال، نظلم هؤلاء الشباب، ومن حقهم أن يصنعوا فنهم، ولكن بحرفية وبمهنية، ورغم أنني من عشاق سيدة الغناء العربي، لكن هذا لا يعني أنني لا أسمع نانسي عجرم على سبيل المثال، وعلينا أن نحترم خيارات الأجيال، وهناك أسماء جميلة مثل يارا، وسيأتي زمن ويجرف بعض الأسماء الرديئة.