محطات صنعتها الطريق، وأخرى صنعت الطريق، كثيرون منا لا يعرفون ولا يقتنعون بالأساس الذي قام عليه تقسيم المرحلة الثانوية إلى مسارين علمي وأدبي، رغم الجدل التربوي وغير التربوي حول هذا التقسيم وأساسه من الصحة في هذا العصر الذي يقسم كل شيء حتى فلسطين. هذا يقودني إلى سؤالي الذي أحاول أن أصل إليه من زاوية مخالفة، وهو: لماذا الأندية الأدبية وليست الأندية العلمية؟، أو لماذا هي ليست أدبية وعلمية معا؟. تعلمنا التجارب الإدارية والثقافية أن هناك عمرا افتراضيا للأسئلة التي تستعصي الإجابة عنها لجيل من الأجيال، فليس صحيا للمجتمع وثقافته أن تبقى الأسئلة متداولة أفقيا بين الأجيال دون تاريخ صلاحية، ولا يجوز تأجيل أو ترحيل أسئلة جيل إلى الجيل أو الأجيال التي تليه، وإلا لاستمرت الثقافات والمجتمعات قناعات فردية، حتى في عصر المؤسسات.. فهل تصمد الثقافات وتقف على قناعات الأفراد؟. إن الحديث عن الأندية الأدبية، في غياب الأندية العلمية، هو هدر لأسئلة الحاضر واجترار لأسئلة الماضي، ولا يمكن للمرء أن يتخيل مجتمعا يزخر بهذا الكم من المؤسسات العلمية والأكاديمية، والمعطيات الاقتصادية والمعرفية دون أن يستوقفه سؤال له صوت يضج في المسامع عن سبب الإبقاء والإصرار على الأندية الأدبية دون العلمية. لا أضع الأندية الأدبية في مواجهة الأندية العلمية من حيث الضرورة، فلكل أهميته وغاياته، لكننا نهدر فرص شبابنا مثلما أهدرنا طاقات أطفالنا، إذا لم يتم العمل حثيثا على تأسيس أندية علمية تستهدف الأطفال من الجنسين، وتزود بالمختبرات والمعامل والأدوات الهندسية والفيزيائية والكيميائية والرياضية. ليس بالضرورة أن تكون هذه الأندية مرتبطة بالأندية العلمية إداريا، ولا أحب أن يستمر الفصل بين العلمي والأدبي في الحياة كما هو بالطريقة البلهاء الموجودة في المدارس، لكني أراها ضرورة ملحة أن تكون كل هذه الأندية ذات الصبغة العلمية والأدبية تحت استراتيجية وطنية واحدة ومشروع وطني واحد، لكي لا يبتلعه الحوت الإداري الحكومي، الذي ما إن يبدأ حتى يحول الهدف الأساسي لأي مشروع إلى هدف إداري تشغيلي. من المهم التأكيد على أن مشروع الأندية والمراكز العلمية المقترح بالتوازي مع الأندية الأدبية في مجتمعاتنا المحلية، ليس مشروعا أكاديميا، رغم أهمية وجود الحبل السري الأكاديمي بالموضوع، فهذا مشروع قيمي، يرمي إلى تجذير القيم وتأصيل الروح الإيجابية لدى الأجيال الجديدة وتغيير الثقافة السلبية السائدة بطريقة مباشرة وغير مباشرة، بما ينسجم مع العصر والمتغيرات في العالم. لا يجوز أن يبقى العلم حبيس أوقات الامتحانات، ولا يجوز أن يسجن العلم في المدرسة دون المجتمع والحياة، يجب أن نستنطق العلم في بيوتنا وقرانا وشوارع مدننا وثقافتنا العامة ومجتمعاتنا المحلية. يجب أن نخرج من سجن القسم العلمي وزنزانة القسم الأدبي في المدارس، إلى نادي نجران للفيزياء، ونادي شقراء للكيمياء، ونادي الجوف للفضاء، ونادي جدة للفلك، ونادي عنيزة للرواية، ونادي الأحساء ونادي تيماء للآثار، ونادي الرياض للرياضيات... إلخ. هذا ليس تحديا للأندية الأدبية وإداراتها المنتخبة أو المعينة، ولا هو منافسة لها، فكثير من أدباء العالم وروائييه وقاصيه وشعرائه جاؤوا من خلفيات علمية، هناك حراك ثقافي عام أو موت عام، فإما أن يحيا كل شيء أو يموت كل شيء.. الحراك العلمي أو الأدبي يغذي بعضه بعضا وينعكس على ثقافة المجتمع، الذي لا يزال يرى الشاعر مهندسا والمدرس فلكيا، والمشعوذ والسباك طبيبا، ويرى المذيعة طبيبة للأمراض النفسية. إذا كان المجتمع قد قبل على مضض تقسيمات العلمي والأدبي في الثانوية، فلا يجوز تقسم المجتمع بنفس الطريقة الخاطئة، فضلا عن مصادرة أحد هذين القسمين وهو النادي العلمي والإبقاء فقط على الأندية الأدبية. إنه عصر أندية العلم مثلما هو عصر وجاهة أندية الأدب.. إنه عصر الثقافة الذكية واقتصاد المعرفة. * مستشار إعلامي