لا يخلو الحديث عن السوق من عدد من العناصر وهي رأس المال ووسائل الإنتاج والعامل وصاحب العمل.. والأخيران يلعبان دورا آخر في تشكيل المجتمع، وهي العناصر ذاتها التي تصارعت حول ترتيب أهميتها. ففي حين يعلي الفكر الرأسمالي من قيمة الفرد على حساب المجتمع ويطلق له العنان تحت شعار «دعه يعمل دعه يمر» الشهير لتشكيل السوق فيملكه من وسائل الإنتاج بلا حدود ويمكنه من استغلال العامل دون رقيب ويحاسبه فقط بقانون العرض والطلب أو ما يطلق عليه سميث «اليد الخفية» في معادلة صفرية من يملك فيها وسائل الإنتاج يملك السوق. فإن الفكر الاشتراكي يعلي من قيمة المجتمع على حساب الفرد في المقابل، فيمنع الفرد وهو التاجر هنا من تملك وسائل الإنتاج ويقيد علاقته بالعامل وتتولى الدولة أي المجتمع تشكيل السوق بدعوى ضمان تساوي الملكية للجميع وهي ذات المعادلة الصفرية التي انتهجها الفكر الرأسمالي. أما الفكر الاقتصادي الإسلامي والذي لا يعد نظرية بقدر ما هو تشريع فيقف على مسافة واحدة بين الفكرين الرأسمالي والاشتراكي من حيث تشكيل السوق فلا تتدخل الدولة بشكل مباشر مع ضمان حماية المجتمع من الاحتكار أي أنه منهج وسطي لا صفري. والذي حدث مع صراعات الفكر الاقتصادي العالمي هو بروز الفكر الرأسمالي الذي يشجع تحرير السوق كنتيجة طبيعية على الفكر الاشتراكي الذي يقيد من حرية الفرد في التجارة باعتبار أن الفكر الاقتصادي الإسلامي ليس فكرا نظريا مطروحا للنقاش.. إلا أن الأنموذج الذي توافق عليه العالم لم يكن الأنموذج المثالي لتشكيل السوق لتظهر بعد ذلك الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية أبرزها البطالة.. حتى خرج وزير الاقتصاد الألماني لودفيج إرهارد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بمفهوم اقتصادي جديد يجعل من الدولة ضامناً لحرية آليات السوق الرأسمالية وللعدالة الاجتماعية للفكر الاشتراكي، فعطل المنافسة الشرسة للرأسمالية كالاحتكار واستغلال العاملين من خلال تكوين نقابات عمالية تحافظ على الروح الاجتماعية للسوق مع ضمان عدم الإخلال بروح الإبداع والخلق لأرباب العمل.. أي أنه جعل الحكومة تتدخل في تشكيل السوق عند الضرورة لتحفيز النشاط الاقتصادي ولكنها لا تطلق يده ليقتل المنافسة العادلة التي تحقق السياسات الاجتماعية وهو ما يعني عودة صريحة وواضحة لأبجديات الفكر الاقتصادي الإسلامي ولكن تحت مصطلح جديد اتفق عليه أن يكون باسم السوق الاقتصادي الاجتماعي وهو الأنموذج الذي حققت ألمانيا من خلاله قفزتها الاقتصادية الاجتماعية التنموية. الذي يحيرني وأنا استعرض تصريحات المسؤولين الاقتصاديين في السعودية هو الحرص الكبير على التأكيد بأن العقيدة الاقتصادية للسعودية هي السوق الحر هكذا دون استثناء برغم جميع المشكلات التي يعانيها المجتمع السعودي من بطالة وعجز في التنوع الاقتصادي وخلل في هيكل الأسعار والأجور وكأنهم في معزل عن حدث تخلي الفكر الغربي الرأسمالي عن العقيدة الرأسمالية الصرفة على مدى نصف قرن إلى النهج الوسطي لا الصفري وما فتئت عن الترويج لعقيدتها الاقتصادية الاجتماعية الجديدة التي أصبحت أكثر قرباً من أي وقت مضى من تحقيق العدالة الاجتماعية للجميع الفرد والمجتمع على السواء ولكن بمسمى غير إسلامي.