لم تنبت كلمة رأسمالية في بيئتنا، بل هي عبارة عن ترجمة للكلمة الأعجمية capitalism. ومن ثم فإن التعرف على معنى رأسمالية يحتم -في النهاية- الرجوع إلى المصادر الأجنبية. تفسر المراجع اللغوية والاقتصادية الانجليزية المشهورة الرأسمالية بأنها نظام اقتصادي يستند إلى هيمنة الأفراد والقطاع الخاص على ملكية وسائل أو عناصر الإنتاج كرأس المال والعمل والأرض، بغرض الربح. وهذا المعنى الذي يمثل جوهر الرأسمالية متفق عليه بين علماء الاقتصاد. انظر، مثلا، المراجع التالية: Random House Websters. * Oxford Advanced Learners Dictionary. * The Dictionary of Modern Economics. * The Palgrave Dictionary of Economics. * and Wikipedia وتسمى الرأسمالية أحيانا باقتصاد السوق. وأما تصرفات من قبيل الاحتكار (بمعنى الانفراد وليس الحبس) فليست من ماهية الرأسمالية ولكنها عارض. ويشبه ذلك القول بأن الاحتكار (أو الغش أو ...الخ) عارض على التجارة وليس من ماهيتها. وإذا هيمنت الحكومة على ملكية وإدارة عناصر الإنتاج، وأضحت آلية السوق معدومة إلى ثانوية الأهمية، صار النظام اشتراكيا. ماهية الرأسمالية تنطبق على السلوك الاقتصادي في المجتمع الذي يطبق الشريعة. والرأي السائد لدى المؤرخين الاقتصاديين الغربيين أن احتكاك الغرب بالمسلمين إبان ازدهار الحضارة الإسلامية كان له أثر كبير في تعريف الغرب بميزات اقتصاد السوق والملكية الفردية، واقتصادات المجتمعات الإسلامية قائمة على أساسهما عبر القرون، بل كانا موجودين قبل الإسلام منذ آلاف السنين، وجاء الإسلام فأبقاهما، ضمن ضوابط. والمقصود أن الرأسمالية ليست من اختراع الغربيين، ولكنها حديثة عليهم، لأن النظام الإقطاعي كان هو السائد في الغرب قبل الرأسمالية. ومصدر توهم أنها من اختراع الغربيين أن الثورة الصناعية ظهرت في الغرب، وأنهم هم الذين أعطوا اقتصاد السوق التسمية رأسمالية، ولكن العبرة بالحقائق والمضامين. وتبعا يحق لنا أن نقول بوجود رأسمالية إسلامية، تفريقا عن أنماط أخرى من الرأسمالية، بحيث تعني شرعية وجود اقتصاد قائم على اقتصاد السوق وهيمنة الأفراد على ملكية وإدارة عناصر الإنتاج، مع خضوعه لأحكام وضوابط الشريعة، وهي أحكام يغلب عليها أنها من قبيل القواعد والأصول العامة. وتبقى تفصيلات كثيرة جدا تركت الشريعة أمرها لعقول البشر، مثلا، حجم وعدد المؤسسات الأمثل لتقديم خدمة من الخدمات العامة، وهل تكون حكومية أو خاصة، وكيف تسعر خدماتها ...الخ. وهناك صور متعددة للرأسمالية، وقد شاع لدى الناس أن النموذج الأمريكي هو أقلها تدخلا من جهة الحكومة، وهذا غير دقيق، فهو أقل قيودا في أشياء وأكثر قيودا في أشياء، فمثلا، قوانين مكافحة الاحتكار والتكتل الأمريكية أقوى من الأوربية، وهذه نقطة يغفل عنها كثيرون. هل الاحتكار والربا والاستغلال من أركان الرأسمالية؟ وجود الاحتكار (بمعنى الانفراد) والربا والاستغلال ليس بشرط لوجود الرأسمالية. ولذا أتعجب كثيرا من الذين يصرون على خلاف ذلك، كما لو أنهم أعلم بمعناه من مصادره الغربية المشهورة. لكن من أشق الأمور أن يحاول المرء تصحيح تصور خاطئ شاع واستقر في الأذهان. ويشبه ذلك محاولة تغيير فهم الإعلام الغربي للجهاد. طبعا هناك من يرى أن الرأسمالية بالتعريف السابق تقود بطبيعتها إلى الاحتكار والاستغلال، وكانت هذه النقطة محور نقاش كارل ماركس في نقد الرأسمالية. هب أن الرأسمالية تقود إلى استغلال الناس. هل هذا يعني رفض المبدأ والأصل، وتوقع سقوطه؟ لا. ومن يقول نعم، فعليه أن يعمم المنهج. مثلا عليه أن يحكم بسقوط كل تصور ومبدأ، حينما يساء تطبيقه أو يمارس بخلط ما هو مشروع بما هو ليس بمشروع. وهذا خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلى سبيل المثال، ثبت في الصحيحين أن رسول الله لما قدم المدينة وجدهم يسلمون الثمار السنة والسنتين، فقال "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". أبقى الرسول على السلم الجاهلي بعد وضع ضوابط، ولم يسقط أصل العمل، ومن ثم يمكن أن نقول بأنه كان هناك سلمين: سلما إسلاميا وسلما جاهليا. وإجمالا، يلجأ إلى وضع القيود عند وجود سلبيات، وهذا موجود في كل زمان ومكان. وهذا ما حدث للرأسمالية، وتوصف عامة اقتصادات العالم في الوقت الحاضر، بأنها اقتصادات مختلطة mixed economies. ويخطأ خطأ صريحا من يتحجج ضد الرأسماليات المعاصرة بأقوال عفا عليها الزمن لآدم سميث وغيره من السابقين. وبالله التوفيق،،، @ بكالوريوس في الشريعة ودكتوراه في الاقتصاد.