نجح الشاعر الحميدي الثقفي في تطويع جمهور أمسيته في جمعية الثقافة والفنون للإصغاء لهمس ضميره، وألهب بنصوص يقينية نار التأويل لتتوافد المصابيح لمؤانسة أرواح كادت تقع في بؤرة الانطفاء، ولم يسمح الحميدي لبؤس المثقف ومتاعب النخبة أن تطغى على سلاسة وعذوبة الشعر، مع إصراره على التمرد في التعبير عن مواجع الآدميين على طريقته دون وصاية ولا توجيه حتى من محبيه «الناس قالت، قالت اكتب لغاية، والغاية أكتب غير ما قالت الناس، أطعمني التاريخ خبز الرواية، كليب والزير المهلهل وجساس» ، وأرخى الحميدي زمام القوافي على رصيف الأسئلة الحبلى بالحمولات «صبي الغيم يا سلمى لناس غلابه، من ولعهم على الما يحلبون السراب». وظل هذا الشاعر المعتق تحت ظلال الرازقية يصدح كما طفل لا يفرق بين بلاغة الجوع ومجاز الشبع «رفرفت في بالي أوراق بيضا مهمله، واشتهى صمت أبيض الجوع تفاح الكلام، مثل طفلٍ كان يبني ويهدم منزله، في هديل البحر واصطادته موجة حمام، كلما قربت للريح ناري المشعلة فوق صدري زادني جمرها برد وسلام». وبرغم اكتفاء بعض مجايلي الحميدي بنصوص الطفرات، إلا أنه نجح في اعتقال صور تقليدية ليطلق عنانها مجددا وهي تراوح بين التجريدي والسريالي «حبيبي ما أنت لي وحدي حبيب ولا حبيب الكل، كثير اللي يحب ويمتلي ويفيض فنجاله، أنا لي ألف نجم اهتدى بي وألف نجم ضل، سرى من شرفة الغيب البعيدة ينفض ظلاله، أحبك لا تصيرها على أوراقي سؤال وحل، دخيلك يا حبيبي من جواب الحب وسؤاله، أخاف أقولها ويجف ورد بالظنون ابتل، وأنا ما أحب أكون الشاعر اليبكي على أطلاله». ولم يخف الحميدي تحفظه على المسابقات الشعرية في القنوات، إذ وصفها بالتجارية والمعنية بالمردود المادي بصرف النظر عن رداءة ورتابة ما تقدمه، وصدح بقصيدة عرضة منها: «الحميدي قال أنا لو كان لي سلطة وزير إعلام، اتخذت أول قرار ألغي قناوات الشعر والعرضة، يوم شفت الشعر حكمه في يدين الجاهل المتعاقل، قال هذا شاعر المعنى وهذا شاعر العرب، والعرب من كثرة الشعار صامت مدة، عن بطولات الفعايل والبطولة ليح بوبها» . فيما اعتنى الشاعر خالد قماش بالمساء والطفولة والشرائع والشوارع وساري «مساء الورد والسكر، مساء الحرف والدفتر، مساء الطهر والعفة، كرز طافح على الشفه»، ولا تستكين الصور عن حضورها الباذخ من خلال تحوير المفردات «الشرايع شيء رايع، اللي رايح واللي جي، واللي نازل في عروقي واللي توه منها طالع»، ليختتم جولته التفقدية لملامح وطن بتعليق لوحة على جدار متجاهلا ألوانه الباهتة، ولم يكن الشعر شحيحا إلا أن وقت الأمسية المحدود أطفأ فانوس البوح مع إقامة صلاة العشاء، مع التزام المقدم الفاتن الشاعر عبدالعزيز أبو لسه بالوقت ونجاحه في إضافة الشعرية إلى التقديم ويشعل شموس الكلام من ضفتين نابضتين بالفخامة. وشهدت الأمسية مداخلات من الدكتور عبدالواحد سعود ومحمد ربيع وغرم الله الصقاعي وعلي البيضاني.