بعدما ازدهرت البنيوية، لفت النظر المواكب الجنائزية التي تم افتتاحها بموت المؤلف، وأصبحت موضة آنذاك، وانتقلت إلى موت أي شيء، فهذا يقول بموت البلاغة، وذاك يقول بموت النحو، وذلك يقول بموت النقد الأدبي، وكانت هذه الموضة القبورية دليلا على أن المصطلح قد يظهر في فرنسا أو أوروبا، ثم ينتقل إلينا في شكل هواية كورالية تتقن الترديد دون إيغال عميق في الجهاز المصطلحي الذي يعيش داخله المفهوم الاصطلاحي، ودون دراسة عميقة لتأريخ المصطلح ومسيرته التطورية وهو في الرحم الاصطلاحي حتى ينتقل إلى الجهاز الذي يعيش فيه ثم متابعة توظيفه ومشاكله الإجرائية أو التطبيقية.. كل ذلك جعلني أقف أمام مصطلح «موت الأدب» الذي يظهر هذه الأيام، مع أن ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة الغربية هي الفضاء الذي استدفن كثيرا من الأشياء في أفق تلقي القارئ الذي وصل إلى درجة الموت هو أيضا في عدمية وسمت الأدب والنقد بميسمها كما يذكر ذلك تودوروف.. ولكن يظهر أن القضية المتعلقة بموت الأدب هي قضية كبيرة، والدليل على ذلك ما عرضه الناقد المغربي حسن الطالب الذي تتبع ما ألف فيها في فرنسا خلال السنوات الأخيرة، فوجده يزيد على اثني عشر كتابا، وقد ألف فيها أسماء كبيرة كجان ماري شيفر وكتوردوف الذي ترجم كتيبه إلى العربية تحت عنوان «الأدب في خطر» . ولكن الذي يقف حول هذا الموت للأدب ليس أفقا تنظيريا في المقام الأول، بقدر ما هو تشخيص لواقع استهلاك الأدب في ظل الانفجار التواصلي المعلوماتي العالمي الذي صرف المتلقي عن الأدب، وأصبح مهملا في مقابل ظهور النص الرقمي التفاعلي والبرقماتية والسرعة والانصراف نحو السطحية وفرض تقنيات السوق ومقتضيات الاستهلاك على كل شيء. ومن ثم كان السؤال الذي طرحه تزفيان تودورف عن جدوى دراسة الأدب وتدريسه سؤالا مشروعا يفتح في أفق الغرب وهو يعيد تشخيص الأدب ويعيد ترتيبه من جديد وفق مسطرة الرقمية، ولكنني أشير إلى أن موت الأدب ربما يرتبط بموت أجناس من الأدب لا بموت الأدب بمجمله، فالرواية أو السردية لا يمكن أن تنفصم عن الإنسان مهما كانت الظروف ومهما كان التطور، فهي مكون أساسي للحياة وللتفكير وللإبداع، وما زالت توزع في الغرب ملايين النسخ من الروايات تحديدا؛ لكونها فن الإنسان الأول.. هذا جانب والجانب الآخر في نظري أن ما يحدث ليس موتا بمعنى الفناء، ولكنه موت بمعنى التحول والانتقال إلى حياة أخرى وإلى شكل آخر، وعلى ذلك فإن تلك الكتب الكثيرة حول موت الأدب لا تحاول أن تصرخ بفعل الندبة، بقدر ما تحاول أن ترصد صرخة التحول لتشخصها.. أما في الأفق العربي، فلربما لو أردنا أن نقترب من مصطلح موت الأدب، فسنجد إشكالات تختلف ضرورة عن موت الأدب في الغرب، يمكن هنا أن نتحدث عن موت الأدب أو موت الثقافة، ولكن ليس بمعنى تحولها في عالم رقمي، وإنما ضغطها وتقزيمها، أي محاولة العيش بلا ثقافة ولا أدب، ومن هنا فالأدب الحقيقي هو صراع مرير ضد الفناء وليس تعبيرا إبداعيا عن الحياة فحسب، ومن هنا أيضا فإن الأدب يولد في الشرق موشوما بقضية ضد فنائه وبغض النظر عن ما يستلزم عن هذا الأمر.. فإن ما يلزم في هذا المقال هو الانتباه فحسب إلى موت الأدب في الغرب الذي يعني فقط الانتقال إلى حياة جديدة، حتى لا يقوم هواة موضات المصطلحات بحفر قبور جماعية جديدة ويصبحوا من ثم غربانا لجنائز وهمية أو يقوموا بتصنيع الوهم لموت لا موت فيه.