في كتابه "مدخل إلى التنوير الأوروبي" تتبع هاشم صالح قصة معركة التنوير الأوروبي منذ ابنثاق أول أنوراها وحتى غمرت إشعاعاتها أوروبا. أما في كتابه " معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا" الذي نقدم له هذه القراءة فيتناول صالح التنوير عبر استعراض قصص عدد كبير من أشهر الفلاسفة والمفكرين، كما يبحث في عدد القضايا التي أدت إلى انبثاق حركة التنوير وإزدهارها، ولكن في خلفية كل ذلك نتعرف على صعوبة وقسوة المعارك التي قادها أبطال العقل هؤلاء بهدف إخراج الناس من ظلام التعصب والجهل إلى نور التسامح والمعرفة . بشكل انتحاري غامر هؤلاء بحياتهم وهناك بالفعل من خسرها ( لنتذكر الفيلسوف جيردانو برينو الذي تمت ملاحقته بطريقة مضينة وتم صلبه وحرقه في الأخير ). على الرغم من أن هاشم ، على غير عادته، لم يتطرق كثيرا إلى العالم الإسلامي والعربي، إلا أنه موجود في كل صفحة. فمعارك التنويريين والأصوليين انتهت في أوروبا منذ وقت طويل بعد أن أشرقت أنوار العقل والحرية، ولكنها تستعر في عالمنا وهاشم صالح أحد أكبر أبطال التنوير العربي يعرفها أكثر من غيره. ماهي السمة الأساسية لمشروع التنوير ؟! يجيب هاشم صالح على هذا السؤال معتمدا على كتاب "روح التنوير" للفيلسوف الفرنسي تزفيان تودوروف. يقول :" السمة الأساسية هي تحرير الانسان من كابوس اللاهوت القديم لكي يستطيع أن يفكر بنفسه بدون أي وصاية خارجية عليه. ولهذا السبب اشتعلت المعارك بين فلاسفة التنوير ورجال الدين على مدار سنوات طويلة. فالكنيسة كانت تتحكم في المجتمع من المهد إلى اللحد، ومن العمادة إلى القبر. وكانت السلطة الزمنية في يدها وليس السلطة الروحية فقط. وقد بذل الفلاسفة جهودا مضنية لانتزاع هذه السلطة منها". الأمر الأساسي الذي أراد فلاسفة التنوير تحريره هو فعل المعرفة ذاته كما يقول تودورف عندما تحولت إلى المرجعية العليا وليس ما يقوله القديسون أو آباء الكنيسة. بمعنى آخر هو إعادة الثقة إلى العقل المستلب الذي كان يصدق كل شيء وليعود إلى وظيفته الاساسية وهي التفكير بدون وصاية أحد عليه. هذا التنوير الذي يعني أنه "ينبغي أن نغربل كل شيء، وأن ننقد كل شيء على أضواء العقل " كما يقول الفيلسوف كوندورسيه نهض على يد مجموعة شجاعة من أبرز أبرز الفلاسفة الذين ساهموا بعقولهم اللامعة وأرواحهم الخيرة لدفع البشرية إلى الأمام. يستعرض هاشم صالح سيرة مجموعة منهم من فولتير إلى ايمانويل كانط إلى هيغل وغيرهم من الأدباء مثل فيكتور هيغو والشعراء مثل هولدرلين. فولتير زعيم الأنوار الفرنسية الذي مازالت يتردد صدى كلماته لحد الآن في عالمنا اليوم. فولتير الذي أطلق صرخته الشهير " أسحقوا العار والشنار" ضد التعصب الديني والطائفي في فرنسا كان مهدداً في حياته بسبب مقالاته وكتبه ومسرحياته التي كانت تهاجم بضرواة الأصولية والتعصب. ولكن مع ذلك، ومع أنه عاش منفيا طوال عمره ولم يرجع إلى باريس إلا قبل وقت قصير من وفاته إلا أن كراهيته وحقده على التطرف والجهل كانت بلا حدود وهي ما أمدته بالطاقة لكي يكتب بكثافة وفاعلية وبمجالات مختلفة. ولحد الآن فإن الأصوليين يحقدون عليه. يقول عنه هاشم صالح :" فولتير هو العدو اللدود للتعصب والمتعصبين، للأصولية والأصوليين. يكفي أسمه لكي يرتعدوا خوفا أو يزمجروا غضبا.. لقد أمضى حياته في محاربتهم وتفكيك عقائدهم والتحذير من مخاطرهم على المجتمع والحضارة الإنسانية ". وفولتير الذي كان يتمتع بشخصية كارزمية وحس ساخر كان مقربا من ملك بروسيا فريدريك الثاني الملقب ب" المستبد التنوير" الذي شجع على الفلسفة والعلوم في عصره وأمضى عنده ثلاثة أعوام تقريبا قبل أن يختلفا ولكن استغل وجوده هناك لتعميق رؤيته وتجديد حربه على المتعصبين. فولتير العاشق الذي لم يتزوج كان المحرض الأكبر للمؤلفين الآخرين في مواجهة الظلم والاستبداد، كما أنه كان أكبر المتفائلين والمؤمنين بزحف التنوير ليعم فرنسا كلها. يقول في رسالة لأحد أصدقائه: " النقطة الأساسية هي أن يستنير الناس الذين نعيش بينهم وأن ينتشر النور تدريجيا. حينها سيحترمك حتى أولئك الأعداء الجهلة الذين الذين يكرهون العقل والفضيلة (وفي رسالة أخرى إلى أحدى السيدات الاستقراطيات يقول :"ياسيدتي النور يشع على العالم شيئا فشيئا، وينبغي أن نترك العميان المتعصبين يموتون في ظلماتهم ). فلوتير المستنير الكبير كان مؤمنا كبيرا بالله وعندما اقترب من موته قال كلمته الشهيرة :" أنا الآن على شفا الموت، وأعبد الله، وأحب أصدقائي، ولا أكره أعدائي وأمقت الخرافات". ويتطرق هاشم بأسلوب رائع إلى حياة فيلسوف شهير آخر هو دينيس ديدرو الذي يسميه " المخطط الأكبر لمشروع التنوير". العقل المشع والخطير لعقل ديدرو بدأت علاماته مبكرا الأمر الذي جعله محط الشكوك والشبهات. وفي أحد المرات وشيء به أحد الجيران إلى خوري الكنيسة التابعة للحي الذي يسكن به. وكتب الخوري تقريرا مفصلا إلى رئيس الشرطة يقول فيه :" أنه شخص خطير جدا ... وهو رجل متوسط العمر (34 سنة)، ويبدو أنه قد امضى شبابه الاول في حياة اللهو والمجون... صحيح أني لم أتحدث لكم سابقا عن هذا الشاب، ولم ألتق به شخصيا حتى الآن. ولكن قيل لي بأنه ذكي جدا، وأن محادثته ممتعة حقا". ديدرو الفيلسوف الموسوعي الذي تم سجنه ووضع في ظروف قاهرة حتى يعترف بأنه صاحب كتب " الأفكار الفلسفية " و" رسالة إلى العميان " التي بدأت افكارها الخطيرة والتحريرية بالانتشار بين الناس كان يسميه فولتير ب" سقراط المضطهد من أجل الحقيقة" . وفولتير الذي نال شهرة كبيرة حسد ديدروعلى مشروعه الكبير المتمثل بالموسوعة الفلسفية للعلوم الطبيعية والعلوم الانسانية الذي استغرق إنجازها عشرين عاماً. مفكر آخر تناوله الكتاب هو ليسنغ الذي عد مشكلة الأصولية والايمان القائم على النقل لا العقل هي المشكلة الكبرى التي يكفي أن نحرر العقول منها حتى تنحل المشاكل الأخرى . يقول هاشم عنه :" أدان الخرافات والشعوذات المنتشرة في أوساط رجال الدين وعامة الشعب. كما أدان الحروب الصليبية واتهمها بأنها صنيعة السياسات البابوية، وأدت إلى أبشع أنواع الاضطهاد الذي يمكن للتعصب الديني أن يرتكبه". كان ليسنغ يسعى إلى تحرير معنى الإيمان ليجعله حرا متألقا خارج قفص الأصولية وقد تنبأ بنهاية الطائفية وهذا ما حدث بالفعل في أوروبا الآن. ولكن انتصار الفلاسفة والتنوير في النهاية لم يكن متوقعا خصوصا اذا ما إذا حسبت عدد المؤيدين والمعارضين. في هذا المجال فإن أعداد المناصرين للمتطرفين كانت أكثر بكثير لأنهم كانوا يصدقون الاتهامات التي تطال الفلاسفة بأنهم ملحدون ويسعون إلى إفساد الأخلاق. ولكن أفكار التنوير بدأت بالانتشار في أوساط الشباب، و هو الأمر الذي كان يخشاه بشكل كبير المطارنة والقساوسة، مما يعني أنهم سيخسرون سيطرتهم عليهم إلى الأبد. لذا فإن بمقابل كتاب واحد لفولتير أو جان جاك روسو تصدر عشرات الكتب التي ترد عليهم وتتهمهم بالكفر والمجون. بوسويه الذي يصفه هاشم بعبقري الأصولية استطاع بالفعل أن يوقف حركة التنوير مؤقتا ولكنها مع ذلك اكتسحت أفكاره وجهوده الممانعة. وكذلك الأصولي شوميكس " الذي كان يلاحق الموسوعة الفلسفية بحقده ويتهمها بالزندقة والخروج على الدين ويؤلب العامة عليها ". ولكن بحسب مايقول الفليسوف ديديه لا يجب أن نضع رجال الدين في سلة واحدة. فقد كان بينهم علماء كبار مثل الأب أيفون الذي كان يحاول المصالحة بين القيم الدينية السامية والمكتسبات العقلانية للفسلفة الجديدة". تطول الكتابة عن هذا الكتاب الرائع الذي يضم عدد من أبرز المقولات التي قالها المفكرون منها عبارة العالم الشهير باسكال عندما قال :" إن الصمت الأبدي لهذه الفضاءات الشاسعة يخيفني!!. ومقولة مونتنيسكو الشهيرة:" أنا فرنسي بالصدفة وإنسان بالضرورة"، ومقولة هيغل التي تلخص فلسفته:" الفكرة الوحيدة التي أتت بها الفلسفة هي تلك التي تقول بأن العقل يحكم العالم وبأن مجرى التاريخ الكوني هو بحد ذاته عقلاني ". كتاب ينبض بحرارة الفكر والروح ومن غير هاشم صالح قادر على ذلك.