مهند.. أو كما أطلق عليه المقاتلون القوقاز في سوريا «مهندوف»، شاب سعودي لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره، يصف نفسه بأنه «شاب طايش عايش متعايش»، لكنه تحوّل في ليلة واحدة فقط، ليلة ومئات الصور المفجعة والإغراءات المحفزة، إلى «مقاتل جهادي» في قاموس التطرف، خرج وحيدا إلا من حنقه على قتلة المسلمين والأفكار الجديدة عن الجهاد حسب مفهوم الذين غرروا به، خرج وحيدا من شمال المملكة، وتجاوز حدود أربع دول بحثا عن «الشهادة» بحسب ما كان يعتقد، لكنه وجد شيئا غيّر كل المفاهيم وصحح كل الاعتقادات، فقرر النجاة والهروب في ليلة ظلماء، نصب له أفراد الكتيبة التي تورط معها كمينا لتسليمه إلى النظام، بعد حجز كل ممتلكاته وجميع أوراقه الثبوتية، وفي أولها جواز السفر وبطاقة الهوية الوطنية. مهندوف.. تردد كثيرا في كشف أوراقه وسرد قصة المأساة للإعلام، ولم يوافق على هذا الحوار إلا بعد شروط فرضها علينا صراحة، وقال «الضمان هو موافقتكم على شروطي»، التي تركزت في طمس ملامح وجهه من صوره في ساحات القتال، وعدم الإشارة إلى منطقته، ولا إلى اسم القبيلة.. مقابل الحديث بشفافية عن كل ما جرى له، من النشأة والتفكير في السفر للقتال، إلى ما دار داخل أروقة التحقيق. وافقنا واتفقنا، وكان الموعد في أحد مقاهي شارع (التحلية) في الرياض، فلم أتردد وتخليت عن كل التزاماتي حتى الضروري منها، وغادرت من جدة إلى العاصمة، في أقصر رحلة عمل، لم تتجاوز الساعات، جزء منها ذهب في الطريق بين المطار والمقهى ذهابا وإيابا، وعندما التقينا كان المتبقي لإقامة صلاة العشاء عشر دقائق، فأمضيناها على فوح رائحة (الاسبريسو) في حديث مطلق ليتعرف أكثر ويطمئن لإجراء هذا الحوار، فننطلق في تفاصيله بعد الصلاة، ولا ننتهي إلا مع مطلع اليوم التالي. مهندوف.. وهو يكشف كل هذا لا محفز له إلا توضيح الصورة الحقيقية الغائبة عن الكثيرين من الشباب ممن يتابعون وسائل الإعلام، وينجرفون وراء دعوات (الجهاد الزائف)، ويدعو من ورائها إلى انتهاز مهلة استقبال العائدين التي وجهت بها وزارة الداخلية لمراجعة النفس والعودة إلى حضن الوطن، إذ لم يتبق منها سوى سبعة أيام فقط، وقال «لو كنت طامعا للظهور إعلاميا لأبرزت اسمي وصورتي، لكنني لا أريد سوى توجيه رسالة صادقة». ● دعنا ننطلق في مكاشفاتنا هذه بوضعك الأسري والحالة الاجتماعية التي تعيشها.. - أنا يتيم الأب، ووالدي توفي وأنا طفل لم يتعد عمري الثانية، فأنا من مواليد سنة 1405ه، ووالدي توفي سنة 1407ه، وكالعادة في مثل هذه الظروف تولى أخي الأكبر تربيتنا أنا وإخواني وأخواتي، وهي أفضل تربية ولله الحمد، ولم يقصر في شيء أبدا. ● إذن لست الطفل الوحيد .. فما ترتيبك بين إخوتك؟ - أنا أصغر الأبناء. ● آخر العنقود يعني؟ - نعم، آخر العنقود، والحمد لله أكملت دراستي حتى أنهيت المرحلة الثانوية، في إحدى المناطق الشمالية، وبحكم قرب الأردن منا سجلت في الجامعة الأردنية على حسابي الخاص، أو بمعنى أصح على حساب أخي، وأمضيت في الدراسة عاما كاملا، إلا أنني توقفت بسبب تزايد مصروفات الدراسة والمعيشة هناك، فعدت ولازمت البيت، بعدها حاولت الالتحاق بأي دراسة أو وظيفة، ولكن لم أجد شيئا، لا علم ولا عمل.. فانتهى المطاف بي بالبيت. ● في أي سنة حصل هذا؟ - تخرجت من المرحلة الثانوية سنة 1427ه، وجميع ما حصل كان من سنة 1428ه وما بعد ذلك. ● دعني أقطع استرسالك وأتساءل.. هل أنت أعزب؟ - نعم، ما زلت أعزب. ● واسمح لي أيضا أن أسألك عن وضع الأسرة المادي إن لم تمانع.. كيف هو؟ - الحمد لله الحال معقولة، تستطيع أن تقول عنها متوسطة. ● ولم يسبق لك العمل في أي موقع؟ - أبدا، لم يسبق لي العمل نهائيا. ● من تخرجك سنة 1427ه إلى الآن 1435ه.. نحن نتحدث عن ثمانية أعوام.. طوال هذه المدة من كان «يصرف عليك»؟ - الوالدة حفظها الله هي التي تصرف علي، وتسد كل احتياجاتي. ● الوالدة تعمل؟ - لا والله، ولكن يجيء لها بعض المال من تقاعد الوالد -رحمه الله- ومن إخواني الآخرين، وباعتباري الابن الأصغر الذي لا يعمل لا تقصر في شيء تجاهي، حتى دخلها تقسمه مناصفة بيني وبينها.. والحمد لله على كل حال. ● دعنا نقف عند ظروف نشأتك، فأنت ذكرت أن أخاك الأكبر من تولى رعايتك.. هل يبدو لدى أخيك نزق المتشددين والاندفاع نحو القتال؟ - ليس له ميول نحو هذه الأمور أبدا، وهو إنسان طيب جدا ورحيم لأبعد حد، ولم يتخيل للحظة أن يراني أتبنى هذا التوجه وأذهب للقتال. بعد أن لاحظت تأثره من تداعي الذكريات حاولت كسر هذا التوتر بسؤاله: ● ألاحظك «مخفف اللحية على درجة 2»؟ - أيوه.. (يضحك). ● إذن ليس كما نراها صبغة لدى المقاتلين؟ - لا والله. ● أم خففتها بعد عودتك؟ - تحصيل العلم الشرعي بالنسبة لي فهو ضئيل ومحدود. ● أقصد؛ هل عندما ذهبت إلى سوريا كنت ملتحيا؟ - منذ البداية وبمجرد تفكيري بالجهاد أطلقت اللحية. ● وهل كانت تجربتك الأولى مع القتال هي سورية؟ أم سبق لك القتال في مكان آخر؟ - لا، لم يسبق لي القتال في أي مكان، وهذه هي تجربتي الأولى. ● وما الدوافع التي جعلتك تقدم على دخول مثل هذه التجربة القاسية والخطيرة؟ - الذي يتابع بعض وسائل الإعلام، ويتنقّل من قناة إخبارية لأخرى، لا يرى إلا القتل، قتل الأطفال والنساء، فهناك ظروف ارتبطت ببعض، كالبطالة و(عطالتي) عن العمل، وجلستي أمام التلفزيون، فأنا دائما أستيقظ عند الساعة العاشرة صباحا، وأبدأ يومي بمشاهدة التلفزيون، وليس لدي شيء سوى (شاهي وقهوة وتلفزيون)، ومتابعة القنوات الإخبارية، فأنا أشاهد الأخبار بكثافة، وأجد هذا الطفل يقتل، وتلك الفتاة تغتصب، وذاك الرجل المسن يهان وتسلب كرامته، فقط لأنه (مسلم وسني). ● هل أفهم من هذا أنك ذهبت وحدك وبقرار من تلقاء نفسك؟ أم هناك من كان يدفعك لذلك؟ - الذهاب إلى سوريا كان قراري أنا وحدي، وكنت أحادث نفسي في هذا الأمر، وفي هذه المرحلة تحديدا انعزلت عن الناس وانفصلت من الدنيا، وصرت منكفئا على المواقع الإلكترونية، وأقضي وقتي في متابعة مقاطع الجهاد في سورية، وأرى ما ينكل بالمسلمين، وما يحصل لهم، فأثارني ذلك لحد أنني دخلت مرحلة التفكير بالجهاد بجدية. ● هذا ما يتعلق بالقرار.. وماذا عن الذهاب إلى سورية.. هل نفهم أنك ذهبت وحدك أيضا بلا صديق ولا زميل ولا قريب؟ - فكرت وحدي، واتخذت القرار وحدي، وعزمت على السفر وحدي، وذهبت وحدي. ● أنت اتخذت القرار، وعزمت على السفر.. ماذا صنعت لتنتقل للخطوة التالية؟ - كان لي معرف على مواقع التواصل الاجتماعي، في فيس بوك وتويتر، فتواصلت مع شخص عبر فيس بوك برسائل، كنت أسأله غالبا عن الأوضاع وما يجري في سورية. ● ما جنسية هذا الشخص؟ - سوري الجنسية. ● لماذا اخترته هو تحديدا بين عشرات الآلاف من السوريين المسجلين في فيس بوك؟ - لأنه موجود باستمرار على الموقع، ويضع صورا مستفزة ومثيرة للمشاعر. ● ولماذا لا يكون هذا الشخص من النظام وتقع أنت في فخه؟ - أنا حسبت كل هذه الأمور، ولكن لم أتعمق فيها كثيرا بسبب الصور التي أشاهدها، وتأكد لي أنه تابع للجيش الحر، فتواصلت معه وشرح لي الوضع، وكان يقول لي إنهم يمرون بحالات سيئة من الجوع والخوف والتنكيل ومن.. ومن.. وأنهم يحتاجون إلى الرجال والمال، فأخبرته أنني لا أملك أغلى من نفسي، وأبديت له رغبتي في الذهاب إليه، فرحب بالفكرة وقال «أهلا وسهلا.. الوقت الذي تسافر فيه كلمني وسوف أنسق معك ونلتقي»، في هذه الفترة لم يكن لدي مال كفيل بالحجز والسفر، فكلمت أحد أصحابي وطلبت منه مبلغا من المال. ● وهل بينت لصاحبك رغبتك بالسفر؟ - لم أبين له أي شيء أبدا. ● كم أخذت منه؟ - 2500 ريال. ● هل قدرت التكاليف قبل أن تطلب المبلغ وتدرك أن 2500 ريال توصلك إلى سورية؟ - هذا هو الموجود، وكنت أتوقع أنه يكفي، لأن ذاك الشخص السوري قال لي «أول ما توصل الحدود السورية التركية سنكون هناك، ونأخذك معنا، واعتبر أنك لن تحتاج إلى شيء أبدا». ● محفول مكفول يعني؟ - نعم، محفول مكفول. ● وصاحبك الذي أخذت منه المال ألم يستغرب من طلبك؟ - بلى، وسألني عن السبب، وقلت له إنني أحتاج إليه في بعض الأمور الخاصة، ولم يلاحظ علي شيئا، وفي الوقت ذاته لم يلح على استشفاف السبب. ● الآن العزيمة موجودة والمبلغ موجود.. ماذا حصل بعد ذلك؟ - هنا فكرت في السفر، وإلى أين أتجه، فقررت أن أسافر إلى الأردن. ● بالطائرة؟ - لا، بل برا، عبر سيارات الأجرة التابعة للمكاتب السياحية، فوصلت إلى العاصمة عمان ومكثت فيها خمسة أيام، وهناك شرعت في ترتيبات الحجز من عمان إلى تركيا. ● إلى أي مدينة في تركيا؟ - إلى اسطنبول. ● وأين أقمت طيلة الأيام الخمسة في عمان؟ - استأجرت في أحد الفنادق. ● كم سعر الليلة؟ - 15 دينارا أردنيا، أي ما يعادل 80 ريالا.. والفندق بدرجة نجمتين ومستواه بسيط. ● والآن حانت ساعة السفر؟ - نعم، حجزت عبر الخطوط التركية، من مطار الملكة علياء في عمان، إلى مطار أتاتورك في اسطنبول، بما يعادل 1200 ريال، وأقلعت الطائرة عند الواحدة ليلا، ووصلنا عند الساعة 4.30 صباحا بتوقيت اسطنبول، نزلت إلى المطار وأنا تائه ووحيد، لا أعرف أحدا، وهناك اشتريت شريحة اتصال تركية، فوقفت على باب المطار لدقائق، واتصلت على الشخص السوري الذي تواصلت معه سابقا، فسألته «وينك؟ أنا الآن موجود في مطار اسطنبول»، فقال لي «أنت الآن بعيد، نحن على الحدود السورية التركية، ناحية أنطاكية». ● أي يتوجب عليك السفر من أقصى شمال تركيا إلى أقصى الجنوب؟ - نعم.. فسألته «من وين أطلع؟ وإلى وين أطلع؟»، فقال لي اذهب إلى محطة رقم (6) من محطات الحافلات المركزية «الأوتو كار»، فذهبت من المطار إلى هذه المحطة، وهناك شاهدت مجموعة من الحافلات يتضح فعلا أنها نقطة انطلاق للرحلات، فوجدت عدة مكاتب، دخلت لأول مكتب، وقلت له إنني أرغب في السفر إلى أنطاكية، فقال رحلة أنطاكية الساعة 2.00 ظهرا، وكان الوقت حينها الساعة 7.00 صباحا، فأكدت الحجز بمبلغ 85 ليرا تركية (143 ريالا). ● إذن «خلصت» ال2500 ريال؟ - تقريبا، وأتذكر أنه حينما وصلت لم يبق معي سوى 50 ريالا وبعض الريالات. ● أكمل.. - بعد تأكيد الحجز ذهبت إلى مطعم وأكلت فيه، ومن ثم تجولت في السوق إلى الساعة 11.00 صباحا، فعدت إلى المكتب، وهناك وجدت أشخاصا نائمين على المقاعد في انتظار الرحلة، فجلست وارتحت ونمت «نومة عدوك.. أنام وأصحى.. أنام وأصحى» إلى أن بلغت الساعة 2.00 ظهرا، وهناك صعدت إلى الحافلة، واتجهنا إلى أنطاكية، وأشرقت شمس اليوم التالي ونحن ما زلنا في الطريق، فاتصلت بذاك الشخص السوري، وسألته عن موقعه، فقال «أول ما توصل الكراجات (موقف الحافلات) في أنطاكية بتحصلني أنتظرك أنا هناك»، وعند الساعة 8.00 صباحا وصلنا موقف الحافلات، وهناك كان في استقبالي أربعة شباب، من بينهم هذا الشخص الذي كنت أتواصل معه عبر فيس بوك. ● كل هذا حصل ولم يعلم أحد من أهلك أين أنت؟ - نهائيا. ● ورقمك السعودي معك؟ - كان معي، ولكنني أغلقته، واكتفيت بالشريحة التركية. ● ولم تحسب حساب الوالدة التي صرفت لك الغالي والنفيس طيلة حياتك؟ - أنا كنت في حالة لا تجعلني أفكر بشيء غير (الجهاد في سبيل الله)، ولم يكن لدي هدف سام أسعى إلى تحقيقه سوى كسب الآخرة، لأنني فكرت بكل شيء قبل أن أغادر، فوصلت إلى قناعة بأنه لا يوجد لدي شيء أخسره أساسا، بعد أن حاولت كثيرا أن أعمل أو يكون لي أي دور في الحياة بأي مجال دون جدوى.