الفساد، مثل أي تخصص آخر، فيه إبداع وابتكار وتجليات تظهر عندما تكون البيئة مشجعة والظروف محفزة والدعم متوفرا. وعندما يتهيأ هذا الوضع المثالي يكون الفاسد في حالة «روقان» تستحث موهبته لإطلاق عنانها واستخدام أقصى طاقتها. والشهادة لله أن لدينا نماذج نستطيع أن نراهن عليها بثقة مطلقة للتفوق في أصعب المسابقات، ولو رشحنا أكثر من متسابق لفازوا جميعا بالمركز الأول «مكرر». لقد اعتدنا على ما يمكن تسميته بالفساد التقليدي في المشاريع، متمثلا في ممارسات وأشكال مكررة ومعروفة كالعبث في المواصفات والتلاعب في كميات ونوعيات المواد، والانحياز إلى بعض المقاولين إلى حد يقترب من الشراكة الظاهرة معهم، تعودنا على تأخر المشاريع وأصبحت مفردة التعثر شائعة التداول. انتهاء بعض المشاريع بصورة مختلفة كليا عما كان يعرفه الناس دون تبرير أو شرح للأسباب التي غيرت جيناتها، وغير ذلك الكثير مما تعرفونه جميعا ولا حاجة لتذكيركم به، ولكن يبدو، أيها السيدات والسادة، أننا بدأنا مرحلة جديدة ستجعلنا نترحم على الماضي وفساده. تخيل، أيها المواطن العزيز، أنك تنتظر مشروع الكهرباء أو السفلتة أو المياه أو الصرف الصحي أو غيرها من المشاريع الحيوية التي تم تخصيصها للحي الذي تسكنه، لكن انتظارك يطول ويطول، ثم تكتشف أن المسؤولين عنها قد نقلوها إلى الأحياء التي يسكنونها. هذا ما بدأ يحدث لدينا كتدشين لمرحلة نقل المشاريع حيثما يسكن المسؤول الكبير، ولتذهب إلى الجحيم أيها المواطن الذي يسكن حيا شعبيا بسيطا. أربعة من المسؤولين الكبار في وزارات وجهات مسؤولة عن تنفيذ مشاريع حيوية قرروا نقل 18 مشروعا إلى أحيائهم وأحياء بعض زملائهم، وبما أن المسؤولين الكبار يسكنون في المدن الكبيرة، فإن نقل المشاريع يكون قد تم أمام عيون بقية المسؤولين الأكبر، ويا دار ما دخلك شر. وما دام الأمر كذلك فمن يدري كم من المشاريع قد نقلها المسؤولون إلى مناطقهم ومدنهم وأحيائهم، وكأنها مشاريعهم الخاصة، أو كأنهم صرفوا عليها من جيوبهم، أو كأن الوزارات والجهات التي يعملون فيها بقية من إرث آبائهم وأجداداهم. مثل هذا الفساد يحرم المواطن نهائيا من المشاريع؛ لأنه لن يتم نقلها من أحياء المسؤولين إلى الأحياء التي كانت مخصصة لها، والتعويض بمشروع بديل أمر مستحيل. ويبقى أن نرجو الهيئات الرقابية التي تحقق في القضية أن لا تقدم شهادات شكر لهؤلاء الأربعة لأنهم ابتكروا نوعا جديدا وجريئا من الفساد، بل نأمل منها أن يطالهم العقاب.