قديما قالوا «أصحاب العقول في نعيم» والمقصود ذوو العقول الراجحة في الحياة ومواقفها، لكن إذا ذهبنا إلى العقول العلمية عندنا وفي بلادنا العربية عموما، سنجدها محرومة من حقها في البيئة العلمية والبحثية المحفزة واحتياجاتهم المادية ومقومات الاستقرار المعيشي لهم ولأسرهم. فليس من المعقول أن يتساوى أكاديمي وباحث برواتب وظائف عادية في الحكومة والقطاع الخاص، بل إن رواتب بعض الوظائف تعد بعشرات الآلاف في القطاع الخاص، ولهذا نجد علماء وباحثين وأكاديميين متميزين يرفضون التعاقد مع جامعاتنا لغياب المحفزات العلمية والمادية، وضعف الكادر الوظيفي الذي لا يؤكل عيشا، وتلك محبطات دفنتها الدول المتقدمة، وتجاوزتها دول عملاقة كالصين، وصاعدة كماليزيا والهند، وحتى بعض دول مجلس التعاون التي تفوقت في بيئتها العلمية والمميزات المادية للعقول العلمية. لقد أقامت الدول المتقدمة نهضتها على العقل البشري وأغرت العقول والكفاءات في العالم بالهجرة إليها والاستقرار بها إقامة أو تجنيسا وفق أنظمة إيجابية مغرية، ودون حساسية ولا تمييز بين أبناء تلك الدول وغيرهم، ومنها عقول عربية خرجت من بلادها الطاردة بامتياز طموحاتهم، بينما كسبتها الدول المتقدمة ومن سار على طريقها في استثمار العقل البشري. إن جذب وتوطين العقول العلمية قضية كبيرة وتبدو لدينا مزمنة ومستعصية؛ لأننا مازلنا على مسافة بعيدة من هذه الأهداف وننفق مئات المليارات في الاستيراد والاستهلاك لمعظم احتياجاتنا، والوكلاء أكثر من المنتجين، دون أن نوجه أهداف الاستثمار والإمكانات المادية نحو استقطاب العقول. فالكادر الأكاديمي لدينا غير منصف للعقول الوطنية، فما بالنا بعالم وباحث وأكاديمي بارز عالميا أو في دولته لا يجد ما يستحق أن يأتي إلينا من أجله، ولهذا تجرفت دولنا العربية من عقولها وفي نفس الوقت عاجزة عن الإصلاح وعجزها أكبر من أن تكون جاذبة للعقول العلمية. فليتنا نبادر بإصلاح ذلك، أيضا إشكالية التفرقة بين مزايا التعاقد من دول متقدمة وبين عقول أخرى، لمجرد أن هذا أمريكي وغربي وهذا عربي أو آسيوي حتى وإن تفوق الأخير أو على الأقل تساوى في قدرته العلمية، وهذا التمييز كما قلت، لا تعرفه الدول المتقدمة لأنهم لا ينظرون إلى أصحاب العقول العلمية من صورهم وأجناسهم وجنسياتهم، وإنما كقيمة عالية للاستثمار ولا شيء سواه، فهل بلغنا هذا الطموح في الاستثمار الأهم؟.