الحوار مع المفكر والباحث هاني فحص هو حوار خارج الطائفية وعنها، حوار بعيد عن الفتنة وضدها، حوار يختص بوضع النقاط على حروف الفتنة تمهيدا لقتلها، ووضع النقاط على حروف مكامن الضعف للأمة تمهيدا لمعالجتها. «عكاظ» حاورت فحص فقلبت معه الهواجس والأفكار، وفي ما يلي وقائع الحوار: • في أولى تجاربها ذوت جاذبية الإسلام السياسي وأثارت موجة من الانتقادات.. برأيكم ما هي العوامل التي منعت هذه الحركات الإسلامية من أن تخلع جلبابها الديني وترتدي جلباب الدولة؟ •• المسألة لها مستويان، نظري وعملي أو تطبيقي، فهناك خطأ نظري أو منهجي، تقع فيه الحركات الحزبية الإسلامية الحاملة لفكرة الدولة، والفكرة غير المشروع، الخطأ هو الخلط العشوائي بين الدين والدولة، أو بين الديني والسياسي، لا في مستوى كونهما مجالين معرفيين وأخلاقيين وعمليين، مختلفين منهجا، ويتكاملان في النتيجة أو الوظيفة، إذا ما تم التمييز العميق وغير الغوغائي بينهما، بحيث يتم التواضع بين أهل الدين وأهل الدولة، على أن العقائدية لا تبني دولا ولا حضارات، وأن الدين لا يبني دولا بل حضارات، وان الدولة لا تنتج دينا ولا ينتجها؛ لأن الدين إذا أنتج الدولة يكون ذلك سببا لخرابها وخرابه، وإذا الدولة انتجت الدين كان ذلك سببا لخرابه وخرابها، لأن الدولة برنامج له أسس المعرفية والتدبيرية والإدارية والدين منهج أفكار موصولة بقيم هي غاية الدين، «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، هذه القيم أو هذه المنظومة من القيم والأفكار لها دور لا يقوم به غيرها في حماية الدولة وصيانتها وإصلاحها وتطويرها متى اقتضى الأمر، وبالتالي فإن أمر الدولة وبناءها في منظور أو الإسلام الدين من ضرورات الاجتماع التي تتغير ولا بد من مراعاة تغيراتها. إلى هنا أكون قد قلت ما أعنيه في المستوى النظري، لأنتقل إلى المستوى العملي، مستشهدا بالتجربة المصرية الإخوانية التي كشفت أن النظرية (غير العملية) قد أوقعتهم في أدلجه مسألة السياسة والدولة، فوصلوا إلى السلطة من دون قدرة على تصور ضروراتها، فوجدوها ضرورتهم الحصرية، ووجدوا أنفسهم ضرورتها الحصرية، فأضروا بها وبأنفسهم. وهذا ما يبدو أن إخوان سورية واعون لها؛ لذلك هم مصرون على عدم الاستئثار (الأخونة) وعلى المشاركة والتعددية النافعة. أما إيران التي بنت دولتها تحت شعار إسلامي فنرجوها أن تكف عنا في أدلجة السياسة على حساب الدين لأن الدولة فيها، بناء وأداء، ليست دولة دينية، وهذا لا يعني بالضرورة أنها بلا دين أو ضد الدين. فالدين والمذهب فيها ذريعة سلطة وتعصيب واستقطاب من دون أن نتهم الشعب الإيراني في دينه، ولكن سنة بعد سنة، يكتشف أن هناك استثمارا غير مريح أو هو مؤذ، للدين وأن ولاية الفقيه ليست إلا تكييفا فقهيا لمسألة مركزية الدولة في الإرث والوعي الإيراني، وهي مقبولة في حدود ضبط بنية الدولة لا في جعلها غطاء للاستبداد، مقبولة وليس من الجميع حتى كثيرين ممن اشتغلوا على ترسيخها في وعي الأمة. وهي مسألة فقهية فرعية وليست أصلا عقديا ملزما، والدستور الإيراني وتعدد السلطات ونمط العلاقات الدستورية بينها، بصرف النظر عن دقة التطبيق، متأثرة بالعمق، بالقوانين والدساتير الغربية. إذن، فهناك في إيران دولة وطنية إيرانية ذات ثقافة إسلامية هي ثقافة شعبها ونكهة شيعية هي نكهة الأغلبية فقط، وذات ثقافة فارسية وعقل إداري كان آذريا (تركيا) منذ السلاجقة حتى الأسرة البهلوية، وأصبح مشتركا بين الفرس والآذريين بعد الثورة من دون أن تحل مشكلة القوميات، حتى القومية الآذرية التي تعاني رغم شراكة كثيرين منها في السلطة والإدارة! كيف تكون إذن دولة دينية ولا تحل مشكلة القوميات إلا بالسيطرة وتدفع الهويات الفرعية إلى الاستيقاظ. إن الدولة الحديثة من ضرورات الدين ومن ضرورات الإسلام، وقد تكون هي الوسيلة الحصرية لحمايته، كما حميت المسيحية بالدولة الحديثة في الغرب، وهذه ليست دعوة إلى أصولية علمانية، بل هي دعوة إلى مراعاة الخصوصيات، ولكن ليس على حساب العموميات الوطنية. إني وليس من موقع الشماتة أو العداء أتوقع أن تكون قفزة الإسلاميين بذهنية شمولية واختزالية حزبية إلى السلطة والدولة من دون برامج وعلى أساس محض عقدي، أن يكون ذلك مقدمة لنهاية فعلية للأصوليات الإسلامية ولحاقها بالأصوليات والشموليات الشيوعية والشوفينية والمسيحية التي اختفت مبكرا أو مع بداية عصر الأنوار الذي حصل قبله الانكشاف بسبب الحروب الصليبية وغيرها واعقبه عصر النهضة الذي انقذ المسيحية من الكنيسة وخلص الكنيسة من نفسها بالدولة. وقد يبدأ عصر الأنوار في إيران بقوة، بعد تمادي النفوذ الإيراني في العراق ولبنان وغيرهما والقتال في سورية. • على وقع الحوار الإيراني الأمريكي والأوروبي حول المشروع النووي.. كيف ترى العلاقة بين الولاياتالمتحدة والدول العربية؟ •• واضح أن هذا الحوار معقد وليس سهلا وطريقه مليئة بالمصطبات لا بالورود، وهل هو حوار يجري الآن علنا ومتواصلا وإن اضطرب أحيانا، بعد أن جرى لسنوات سرا أو شبه علني ومتقطعا بإملاء من ضرورات إيرانية وأمريكية عميقة وغير عابرة، أنضجتها تطورات في وعي واحتياجات الشعب الإيراني والأمريكي وانتصارات لديهما، لم يعد من الممكن إدارة الظهر لها، هنا يرى البعض أن إيران ربما كانت أشد اضطرارا من أمريكا؛ لأن متاعب شعبها ومطالبه بالاستقرار والعناية بالداخل أشد إلحاحا أو تعقيدا من نزوع متعاظم لدى الشعب الأمريكي إلى الكف عن عبور الحدود القومية إلى الخارج، والبحث عن نظام مصالح أمريكية جديد يمكن تطبيقه بالحد الأدنى من الخسائر الاقتصادية ومن دون خسائر بشرية أمريكية، ويعني هذا التنازل من الطرف الإيراني أنه قد يكون أكثر من التنازل الأمريكي، ما يمكن أن يلزم الولاياتالمتحدة بعدم وضع علاقاتها العربية مع المملكة خاصة، في سلة التنازلات، ويمكنها بدلا من ذلك، أن تضع في سلة شروطها على إيران تحسين علاقاتها وتفاهماتها العربية والحد من تدخلاتها وضبط مسارها في سورية وغيرها. وهنا يحلو لي أن أقول بتركيز معقبا على هذا الحوار، فأرى أنه يترافق مع قلق على مصير علاقات تاريخية بين الغرب وأمريكا من جهة وبين البلدان العربية من جهة أخرى، وقد تراوحت هذه بين التوتر الشديد والتوتر الخفيف والخفي أحيانا، وبين القلق النسبي بنسب متفاوتة بين خصم عربي أو خصم آخر والطمأنينة النسبية وبنسب متفاوتة بين صديق عربي وصديق آخر. إن الفاعل الأول والأخير في العلاقات السياسية بين أي بلد وبلد آخر مهما يكن مقدار التباين الثقافي أو المجتمعي، أو مقدار التقارب أو التشارك، هو المصالح التي تتبدل فتبدل السياسات، وعليه فليس هناك علاقات نهائية، ونقع في خطأ إذا اعتقدنا أو صدقنا بأن علاقة إيران المتوقعة مع الولاياتالمتحدة سوف تكون نهائية، تماما كما أن القطيعة بينهما بعد الثورة لم تكن نهائية ولا مرة، وإن اقتربت أحيانا من خط النهاية، فإن الضرورات المصلحية كانت تردها إلى الخلف، وتماما كما لم تكن العلاقة بين أمريكا وعدد من البلدان أو الدول العربية، نهائية أو مطلقة في السلب وفي الإيجاب، وفي بعض الحالات كان الإيجاب يلتبس بالسلب، كما في حالة واشنطن مع النظام السوري، في عهديه الحافظي والبشاري، والمعنيون يتذكرون أن هذا النظام قد وصل واستقر أربعين سنة بفضل الرافعة الأمريكية بداية مع الضوء الأخضر السوفياتي لواشنطن في سورية، وبفضل العناية الأمريكية به، دائما بحجة يمكن أن يكون مفعولها مستمرا في العقل الأمريكي بناء على المشهد السوري، وهي أن القوى الديمقراطية المدنية في سورية ضعيفة ولا تشكل بديلا محتملا وقويا للنظام، وأن البديل ربما كان هو الإسلام المتطرف الذي يهدد كل شيء. على هذا، فهل تتبدل العلاقة بين بعض الأطراف العربية وبين واشنطن من غلبة الإيجاب إلى غلبة السلب؟ بناء على مظاهر المشهد الأمريكي الإيراني الذي لا يخلو من أسباب وموجبات إعادة إنتاج القلق والتوتر والصراع والقطيعة من دون استبعاد قطعي لاحتمالات الحرب؟ أرى أن الأفضل أن يعود العرب إلى هندسة علاقاتهم مع أمريكا والغرب وحتى موسكو التي فتحت أبوابها السوفياتية القديمة الروسية في الحقيقة، على جميع الاتجاهات طمعا بالمكاسب على قلق يسببه لها دخولها وكأنها شريك لطرف مقابل طرف في أحد أنفاق أزمة المنطقة، أي النفق الطائفي أو نفق الفتنة الطائفية، مع وجود أسباب جوهرية وتاريخية لتجدد الصراع الخطير بينها وبين مسلمي الاتحاد الروسي ومن تبقى من مسلمي القوقاز وآسيا الوسطى في هذا الاتحاد، وهم سنة عموما مع جيوب شيعية إلا في أذربيجان الميالة إلى السياق القومي مع تركية أكثر من السياق المذهبي مع إيران. إذن، فالأمل هو استخدام قواعد هندسية عصرية لبناء علاقة عربية أمريكية أو علاقات بواقعية، أي من دون أحلام مضخمة أو مراهنة مبالغ فيها، ومن دون يأس ومن دون وضع خيار القطيعة نصب العين، ولا بأس من مقاطعة ما مبرمجة ومن دون تسويغ أيديولوجي محرج، عندما تتعقد الأمور وعلى أساس أن النسبية هي الحقيقة السياسية والمعرفية ولا مطلقات في حركة التاريخ والشعوب والدول والمصالح والأفراد والجماعات الذين استقطبوا عصبياتهم على أساس المطلقات والتعميمات الأيديولوجية اضطروا لكسرها جزئيا، وروسيا في زمن السوفيات خير مثال على ذلك.