يمكننا أن نوجه دفة اهتمامنا إلى أنفسنا لامتلاك القوة والإسهام في المشاريع الحضارية للبشرية، وحينها يمكن أن تكون ردة الفعل على الدراسات الاستشراقية بدراسات «استغرابية» تخضع نتاج الغرب للدراسة والفحص والنقد مثلما توجه نحونا ودرسنا، ولعل أبرز ما نلحظه في دراستهم توقفهم عند الحروب الإسلامية كونهم يرون فيها انتهاكا لقيم العدل والحريات والإنسانية، ولا يخفى على متابع وباحث أن السيرة النبوية جمعت من أفواه الرواة أخبار الرسول عليه الصلاة والسلام ومغازيه، وارتضى المؤرخون جميع رواياتها في الكتب المؤلفة بشتى اللغات عدا ما يتعارض مع عقيدة وشريعة الإسلام، والمستشرقون حققوا العديد من مخطوطات السيرة وفق أعلى المقاييس العلمية المتعارف عليها، وترجموا بعضها إلى لغات عالمية لست بصدد الحديث عنها، وبعض تلك الدراسات جاءت خاضعة لمعايير البحث العلمي الصارم والدقيق على نمط العقلية الغربية، بدءا من النقد العقلي والتحليل والمقارنة والموازنة والتركيب، وهي تمثل وجهة نظرهم في نبي الإسلام ولاقت دراساتهم قبولا في الدوائر الأكاديمية والتخصصية، وأبرز تلك الدراسات بدأت منذ القرن التاسع عشر الميلادي من باحثين مسيحيين علمانيين واختطت مسارا ابتعد عن الأساطير والأكاذيب التي راجت في أوروبا طيلة قرون، والقرن التاسع عشر شهد انطلاقة في الفكر الغربي والكشوف العلمية وبرزت مدرسة التحليل النفسي ففسرت العبقريات العظيمة في العلوم الإنسانية على أنها ضرب من الجنون، وبغض النظر عن الخلط الذي وقع فيه بعضهم، فإنهم درسوا شخصية نبينا محمد عليه الصلاة والسلام على أنه إنسان غير مقدس، ولم يضعوه في مكانته التي نعتقدها نحن ونؤمن بها من أنه نبي مرسل من الله بدين سماوي، ما جعل ردة فعلنا عاطفية دون وعي بالمبادئ الناجمة عن حرية الفكر أو التفات للفلسفات والتحليلات المنهجية العقلانية، ومن الصعب الحكم على دوافع وأهداف تركيزهم على السيرة وهل القصد منها خدمة المعرفة أو لخدمة السياسة، ولا ريب أن منطق القوة تفوق لديهم ثقافيا وعسكريا فكان من آثاره أنهم أصبحوا يصححون ويخطئون ما يريدون، ومن أمثلة تلك الدراسات التي حاولت إقناعنا بموضوعيتها ما قدمه المستشرق البريطاني وليم مونتغمري (1909 2006) من خلال كتابه ( محمد في مكة)، إذ كتب «أقول لقرائي المسلمين أني ألزمت نفسي برغم إخلاصي لمعطيات العلم التاريخي المكرس في الغرب أن لا أقول شيئا يمكن أن يتعارض مع معتقدات الإسلام»، إلا أن عقليته الغربية تجاهلت ما وعد به من قبل من تبني المنهج العلمي والنقد العقلي ما دفعه عندما تعرض للوحي إلى التشكيك في الوحي وهل هو كلام الله أو ليس بكلامه، وكذلك الحال مع أستاذ العلوم الدينية في جامعة ستوكهولم تور أندريه (1885 1947)، فقد شبه حال النبي عليه الصلاة والسلام حين تدثر وتزمل عند نزول الوحي بحالة تغطية الكهان رؤوسهم، بينما ذهب المستشرق الفرنسي لويس ماسينون (1883 1962)، والذي عمل مستشارا في وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا إلى أن «الحالات الروحية التي كانت تحدث للنبي محمد عشية بعثته وبعد الوحي مشابهة للحالات الروحية للمتصوف الذي لم يبلغ بعد مرحلة الواصل»، وربما تشوهت صورة الإسلام بسبب تفسيرهم للحروب التي خاضها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها حروب سياسية شأنها شأن بقية الحروب في التاريخ ما رسخ في ذهن الغربيين أننا خطر عليهم وعلى المخالفين لنا في كل أنحاء العالم، وخلاصة القول إن المستشرقين نظروا لديننا على أنه قائم على القوة والتعصب ونبذ المخالف فعدوا حمل السيف منهجا غير أخلاقي طغى على الحياة وجعل الأتباع يهملون أقدس القوانين الأخلاقية، وأعود للقول بأن بعض الدراسات الاستشراقية لم تكن موضوعية، كون المستشرقين لم يتخلوا عن عواطفهم وطبيعة مجتمعاتهم ونزعاتهم المسبقة في رؤية الآخر، وكل ما سبق يحتم علينا التفكير الجاد في قراءة الآخر وتسليط الضوء على منهجه وطرائق تفكيره وسبب تقدمه وتحضره وفق منهج موضوعي قائم على العدل (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).