أما قبل: في كتابه (الضوء الأزرق) يقول حسين البرغوثي إن هناك أغنية جاز أمريكية تقول في مطلعها: لماذا أنا حزين وأزرق؟ أمأ أنا فلا أعرف كيف ربطت في مخيلتي بين صورة هذه المدينة وبين عيني شمس التبريزي، ربما كان البحر في لا نهاية زرقته حين يكون مجرد عين زرقاء تخفي الكثير من الحكايات والأسرار، تبدو الأمور مشوشة، مثل حلم، مثل فراغ هائل من زرقة وزبد، صورة حمص هنا وهي تتوشح بياض الثلج وتتلون بزرقة الموت وبرودته كأنما تبحث عين عيني شمس التبريزي، تلكما العينان البراقتان، بعمقهما وزرقتهما الحزينة التي كانت تخفي رائحة الغدر التي تتربص بهما، شمس التبريزي في رواية (قواعد العشق الأربعون) مجرد إنسان بسيط مشرد، لكنه عميق ونقي وله خبرة الحياة التي اكتسبها عبر تاريخ طويل من التنقل والعلم، هدفه في الحياة أن يجعل من حياة صديقه (جلال الدين الرومي) أكثر جمالا ومحبة وسموا، حياة تنبض برهيف القصيد، حمص هنا تبحث عن صديق، إنها في الصورة مدينة خيالية، لا تنتمي إلى واقعنا، مدينة شبحية كأنما استلهمتها مخيلة روائي، تماما مثل تلك الفاجعة التي رسمها كورماك مكارثي في رواية الطريق، حياة ما بعد كارثة تحل بالأرض، لتفقدها اخضرارها ونبضها، لتصبح مجرد أرض مهدمة ومنسية ينبعث من أرجائها الدخان والغبار وبقايا عفونة من جثث مطمورة، مرتع للخوف والضياع والوحشة، شمس التبريزي يبحث عن صديق كما هي هذه المدينة، في عينيه زرقة كما هي هذه المدينة، لا بد أن يكون في هذا الكوكب صديق، في مكان ما، صافيا كماء النبع، يعرف كيف ينظم قصيدة تنبع من أغوار الروح، لا بد أن يكون هناك جلال الدين الرومي الباحث عن جوهر الإنسان.. عن روح الإنسان. في الصورة مدينة تأخذك إلى حلم، وأنت تنظر إليها لا يمكن أن تكون إلا حالما، تنتظر أن يوقظك أحد، أن يهزك، أن يسكب عليك دلوا من ماء، لتفر كل الغربان التي تعبث بك في منامك، تقول مبتهجا إنه مجرد كابوس، تخطو إلى الشرفة التي تطل على المدينة، ها هي الشمس تشرق من خلف البيوت المهدمة، إنها تحرق هذا الكفن الكبير المنشور على هيئة ثلج فوق جسدها المهدوم، ها هم أطفال المدينة، يخرجون ليكوروا كرات الثلج ويتقاذفوها، يضربون بعضهم بعضا، يتلاحقون، يتضاحكون.. غير عابئين بالوجوه القبيحة التي مرت من هنا، يقول جلال الدين الرومي: إن في هذا الطريق مئة ألف إبليس له وجه إنسان، فحذارِ أن تعد كل من له وجه إنسان إنسانا!.