لما أرسلني أبي إلى المدينة، كنت بعد لم أتجاوز سن الحلم، وكانت من المرات النادرة التي أذهب فيها إلى السوق بمفردي، كان أبي قد رسم لي على الأرض خارطة تشكل مسارات ومسارب سوق السبت، قائلا» تتعدي مدرسة متوسطة غامد، وتترك قهوة دوبان في يمينك، وترى في يسارك باب السجن، علامات واضحة وإذا لم تستدل، فاسأل العسكري الذي في باب السجن، وستصعد عبر المسراب إلى وسط السوق، ستشاهد الدكاكين يمنة ويسرى مفتوحة، خل سوق الحلال والحطب في ظهرك تجاه الجنوب، وأفلح صوب سوق القضب في الغرب، وستشوفه في نهاية المسراب، وستقرأ لوحة دكان بن دنانة للمواطير. لبست الثوب الجديد الذي أذهب به للمدرسة مزهوا، فلا يليق بي ان أذهب إلى المدينة بثياب فلاح، خرج للتو من بين الحقول، تلطخت أكمامه بزيت الماطور، وثقبت فروع الشجر أطرافه، قطعت المسافة التي تقدر بعدة كيلوات فرحا، كنت أركض بين قريتي والمدينة، ولم يكن سير ماطور ماء، كلفني أبي بشرائه من دكان بن دنانة هدفا، كنت أريد أن أشاهد السياكل مع أقراني، كان الوقت عصرا ولا بد أن أنجز مهمتي قبل مجيء الليل، فيتيسر لي قليل من الزمن قبل الغروب، ورؤية ملعب المعارف الكبير، تمارس على أرضه مباريات فرق المنطقة، وسأكحل عيني برؤية نجوم نسمع بهم وتتردد أسماؤهم، فاتجهت مباشرة بلا دليل إلى دكان بن دنانة، فوجدته مقفلا لصلاة العصر، قررت البقاء حتى يفتح لأكون أول زبائنه، وجدت في طرف المسراب قطعة كرتون صغيرة، أخذتها وفرشتها في بوابة دكان بن دنانة، وجلست عليها وقاية لثوبي، حضر بعد دقائق فعرفته وحييته، وقد رأيته في زيارة سابقة مع أبي، أبلغته سلام أبي، وطلبت قطعة الغيار للسير المقطوع، ولم أر في وجهه تلك البشاشة، ومزاحا يبادل أبي به، حاولت أمارس الذكاء والشطارة مع تاجر المواطير، حينما ناولته مبلغ المال الذي حرص أبي لئلا يضيع، كان بن دنانة يضع يده على أنفه، ورد على صبي قروي، يتذاكى معه بخفة دم، قائلا له بجفاء ولغة زاجرة آمرة: أقول خذ السير وانقلع... اقلب وجهك!! كلمة قاسية جدا، سمعتها من تاجر في المدينة، وأحد أصدقاء أبي، رسخت في ذاكرتي قلة أدب أهل المدينة، كنت أتمنى أن تسمح لي أخلاقي، الرد عليه ولكن هيهات!!، ترددت لما عبرت بوابة الخروج، فقد يبلغ أبي بما يحدث لو تطاولت عليه، كان في البال ما بقي لي من الزمن، مددت نظري فوجدت قطعة كرتون، كنت أفترشها ملطخة ببقايا براز إنسان، فسحبت ثوبي الجديد من مؤخرتي، وغيمت لرؤيته الدنيا في عيني، كأنها الليل يقبل.