في الليلة التي أقسم على تغيير مسار حياته لم يهنأ بقسمه. أمضى طفولته وشطرا من شبابه راكضا خلف كرة لم تنصفه يوما ووسمت سيرته بالفشل. لم يكن ليستوعب أن الرياح تهب من ضفاف أفعالنا، فكل شيء له بذرة تبذر في مكان ما، وتغدو ثمارها طعاما للجوعى، وأي فعل نحدثه في زمن ما يأتينا مثمرا فنقحمه ونلوم الأقدار، ولا نتنبه أن قدرية الصدفة ليست صدفة إنما نسيان لفعل زرعناه في لحظة ماضوية وغفلنا عنه. بنيته المعافاة تقربه من لعب أدوار الفتوة، وكان أول دور يتقلد زعامته أخذ الثأر من أبناء الصهريج الذين هاجموا فرقة حسين زومال واقتحموا رقصة المزمار كاسرين ضلع المداح وشج هامة المسيري وأخذ العدة إمعانا في إذلال فتوات حارة الزاوية. مثل ذلك الهجوم وصمة عار في جبين حسين زومال، فاستنهض همة أبناء حارته للرد، إلا أن حجة كمال القصير رجحت التريث: لا تهاجم خصمك وهو ينتظرك. ومن غير أن ينتظر أسئلة توجه إليه، حمل بين يديه ترابا وتصنع حثوه في وجوه المجتمعين حوله، فاختلفت ردود أفعالهم، إلا أن جميعهم أغمضوا عيونهم، فأطلق ضحكته: كما باغتونا علينا أن نباغتهم وقبل ذلك نحن بحاجة لانضمام بقية شباب الحارة. وتوعدوا على الرد المناسب ريثما يجهزوا أنفسهم لغارة تزيل ما لحق بهم، وانتدبوا أبو عيشة لاجتذاب الشباب وإثارة حفيظتهم بما لحق بحيهم من عار لن يمحوه إلا الثأر. نهض على قدمي محمدوه جسدا جبليا يتفصد العرق من عضلاته النافرة من مواقعها وتكتسب بروزا حادا في تقليب النفايات الثقيلة وحملها على ظهره لمسافات بعيدة، ومع انعكاسات أشعة الشمس تبرق عضلات الزندين تحت حمولتهما ولا تترك توترها ونفورها حين يقتعد فيء منزله بعد رحلة دائرية على قمائم الحي والأحياء المجاورة، إذ تنتهي جولته اليومية مع انكسار حدة الشمس ويجاهد أن لا يثير غضب والدته بإدخال محتويات ما جمعه لفناء الدار، فغالبا ما تتهمه بالعته: الناس يخرجون القمائم من بيوتهم وأنت تدخلها. وقد وجد في الجانب الخلفي لحوش منزله مكانا لائقا يقلل من ثورة غضب والدته، ويمكنه من تخبئة ما لا يستطيع تصريفه بالبيع أو المبادلة يقتعده لفرز ما جمعه من نفايات طوال اليوم، وما أن ينتهي من عمله هذا حتى يستعد للذهاب إلى الملعب وتخطيط أرضيته بالنورة قبل وصول أفراد الفريق. تلقف تحية أبي عيشة بالترحاب من غير رفع بصره عن كومة أسلاك اجتهد في فكفكة تشابكاتها، مظهرا انشغاله من خلال الردود المقتضبة، إذ اتضح أنه لم يعر مقدمات حديث أبي عيشة اهتماما، فاغتاظ من بروده وكمن يريد أن يقول له أما زلت ممسكا بأحلام العصافير: أنت تشقى وتتعب لتصرف نقودك على تدريب صبية كل ما يقدمونه لك الضحك على فشلك. استشعر أبو عائشة أن جملته استفزت محمدوه فواصل هذره لتقويم المعنى الذي أراد إيصاله، بينما دمدمت شفتا محمدوه بشتيمة بذيئة، تصنع أبو عيشة عدم سماعها بالالتفات ومتابعة عربة مياه انسكب مائها وتصايح المارة بالسقا موسى بن علي يلومونه على قسوته وإنهاك حماره حتى سقط من شدة التعب. وفي محاولة تالية لاستثارة نخوة محمدوه تحدث أبو عيشة عن كسر ضلع المداح وكيف خاتله البومة سالم بضربة أطارت شومته واستقرت على جنبه مهشمة ضلعه الأيسر. اجمع أبناء الحارة على مقدرتك خذ الثأر لأبناء حارتك فلا تخذلهم. لم يستجب محمدوه لكل الإغراءات التي ساقها أبو عيشه لتنصيبه قائدا لفرقة المزمار، فنفض مؤخرته مظهرا غضبا فائرا: حمقك سيبقيك لعبة يتلهى بها الأطفال. وغادر قبل أن يصل دم الغضب ليدي محمدوه، فتهاوت قذيفته التي أطلقها باتجاهه لتصيب بوابة دكان عبدالله المحجوب الذي تناول الحجر المقذوفة وأعادها شاتما محمدوه وكل عرق ينتمي له. ولم يكن يدر بخلد أبي عيشة أن مساومته لمحمدوه سوف تثمر شيئا إلا بعدما خرج من سجن التوقيف يتمنى تزعم أبناء الحارة لإدارة العراك في أي جهة كانت. ** ** حارة الزاوية نبتت اسمها من موقعها الغارق بين ضلعين امتدا أحدهما شمالا لسوق باب شريف وانفرج عنه الضلع الآخر غربا باتجاه مدينة الحجاج، ولم يكن يحمل هذا الاسم في بداية الخروج من السور، إذ أن الفضاء المتسع مكن قاطني الحي من اختيار مواقع منازلهم من غير مسميات، وكان يشار إلى موقع كل بيت بمن يجاوره من الأعيان، ومع الاتساع المديد للحي تمت تجزئته إلى شوارع وبرحات تسمى بما تشتهر به، سواءً كانت شخصية أو حادثة أو مجاميع عرقية، ومع بزوغ الفتوات أطلقت أسماؤهم على المواقع التي يقطنونها، فغدا كل فريق راغبا في مد نفوذه على الأحياء المجاورة لموقعه. وحارة الزاوية تزعمها حسين زومال، وزومال ليس اسم أبيه، بل نسبة للعبة المزمار، إذ اشتهر حسين بإقامتها ورعايتها بشكل دوري والتجيش لمقارعة بقية فرق الأحياء المجاورة، وقد برع في صياغة أغاني (الجوش) حتى تناقلت بقية الأحياء أهازيجه. بدأت زعامته تتزعزع في حادثتين تناقلتها بقية الأحياء بزوائد وحكايات غابت جلها عن مسامعه، فمع تجرؤ إبراهيم عاشور على تصويب بندقية الصيد على فاطمة المهاجرة وإصابتها في قدمها، وتلاها مباشرة هجوم أبناء حارته على حلبة رقص المزمار، وإن اعتبر إصابة أم محمدوه في قدمها حدث بالخطأ، إلا أنه لم يكن يعلم سببا جوهريا لمهاجمة أبناء الصهريج لفرقته حتى شاع خبر ما حدث في غرفة التوقيف لمحمدوه، فتم إضافة فعلي إبراهيم عاشور لخانة الاستهانة بزعامة حسين زومال وبأبناء الزاوية على حد سواء. كانت حيرة حسين زومال تدفعه لأن يقوم بفعل أهوج بمفرده، إلا أن رسالة شفوية أوصلها عبدالله البطيني تحمل تهديدا مستمرا من عم إبراهيم عاشور جعلته يتريث ويتذكر مجيء سليمان الدكش شاكيا من أفعال محمدوه: إن لم تردع أفعاله فسيكون الدم بيننا هو الفيصل. وأنهى شكواه بجملة طويلة انتهت: ها أنا أقيم لك اعتبارك وأحذرك مما يفعل محمدوه. وانطلق بدراجته النارية قبل أن يسمع شيئا من حسين زومال الذي أخذ يربط بين الأحداث بعضها ببعض بيقين أن هناك أفعالا تحدث في الخفاء وتجذبه لقدرية لم يخترها لنفسه. ** ** لم يكن محمدوه يعلم أن تحرشه الدائم بإبراهيم عاشور سوف يجلب منازلات عديدة بين أبناء حارته وأبناء الصهريج، وإذ كان منشغلا عن كل ذلك بمحاولة السيطرة على فريق كرة القدم. امتهن محمدوه بيع الخردة، وقد وجد في القمائم ما يدر عليه مالا يحقق له الزعامة وقيادة فريق الحارة من خلال الإنفاق، وحاول كثيرا استقطاب إبراهيم عاشور للعب في فريقه باذلا إغراءات عديدة، كان آخرها شراء دباب (انبرته) ليستخدمه في تنقلاته وحرص قبل إهدائه التأنق في تزين مقدمة ومؤخرة الدباب بأكسسوارات مضافة ولجأ إلى الخطاط سعيد صنع الله ليكتب له لوحة كتب عليها (القلب يعشق كل جميل) تجاورها رسمه لقلب مطعون، وهو الفعل الذي استهجنه خيري مطلوب: هذا ولد نعمة فلو أنك توفر جهدك ومالك لكان خيرا لك. يذكر تماما أن أذنه تعلقت بين أصابع يوسف عاشور عندما كان صغيرا، ولا يخفي رغبته من الاقتصاص واستبدال الحصى التي اخترقت شحمة أذنه برمانة حديدية يثقب بها أذن يوسف عاشور، وكلما اتسعت المسافة العمرية والثراء المادي انتقلت الرغبة إلى إيذاء ابنه إبراهيم، هي رغبة مدفونة، ولم يكن يمتلك الدراية بأن رغباتنا تقودنا إلى التسرع والسير في المناطق المظلمة وبين الدراية وممارسة الرغبة يظل الاستشعار حاضرا، وهو ما استشعره محمدوه في قراره نفسه بأن إبراهيم عاشور سيكون سببا جوهريا في إدخاله إلى ظلمة لا يعرف منتهاها، ومنذ أن غادر غرفة التوقيف وهو يتميز غيضا ويستعجل الدخول في الظلمة عاقدا العزم على إذلال إبراهيم عاشور بما ينهي غروره واعتداده بنفسه. ** ** في مقعده الذي اختاره خلف منزله لفرز ما جمعه من النفايات، كانت رائحة وخمة تلتصق بأصابعه وكفيه، حاول إزالتها بغسل يديه بقاز تناوله من جالون حرص أن يكون بجواره دائما لتخليص يديه من الشحوم العالقة ببعض المقتنيات التي يحصل عليها في دورته اليومية. مع حلول أوقات الصلاة يسمع أمه تناديه من داخل الدار: الصلاة بوابة الخير فدع كل ما في يدك واتجه للمسجد. وغالبا ما ينهمك في عملية فرز مقتنياته فيجدها تقف على رأسه ناهرة فعله ومظهرة ندمها على ضياع تربيتها له، فيسارع لتقبيل يدها ليتخلص من غضبها وكلماتها اللائمة. يكون صوتها حادا وغاضبا حين توقظه لصلاة الفجر، وكلما تباطأ في النهوض استخدمت خيزرانة طويلة لنخسه وتخليصه من نومه الثقيل، ومن بوابة المسجد يتجه مباشرة لمرمى الحارة غارقا بين أكوام القمائم منقبا عما يمكن بيعه. عادته اليومية تلك أخذت في التراجع وإن حرص على ثبات زيارة كن الدجاج وتناول ما تصل إليه يده من البيض وازدرداها على عجل، كانت فعلته تلك تغيض أخته حواء، فنقنقة الدجاج وصيصانها توقظها من النوم مبكرا ويتعبها تطاير الريش أثناء كنس الفناء، فتطايره يتمدد مساحات واسعة ولا يستطيع سعف مكنستها جرف زغبه اللاصق في الأواني ويزيد من عنت تنقيته حين يحط على الفصفص المنشور للتحميص، وفي كل صباح تلحقه بجملتها حتى إذ نستها ذكرها بها: لو تركت البيض وزفره لأكلته لحما.. أحست فاطمة المهاجرة بتغير تصرفات ابنها ولم تشأ مجابهته بذلك التغير فبقيت ترقبه من بعد، ولم يمهلها التريث اللحاق بتسارع الأحداث كانت ترى ابنها يسقط في أحداث متوالية لا تجد معينا له سوى ذرف دموعها. ** ** أخبره الملاح بما يتبادله فتوة الحارة عما فعله إبراهيم عاشور في التوقيف مضخما له تلك الفعلة ومذكرا إياه برغبة شباب الحارة بانضمامه لمهاجمة أبناء حارة الصهريج. لا يعنيني منهم إلا إبراهيم عاشور. تعهد له الملاح بأن يترك له إبراهيم ليفعل به ما يشاء. استكمل أبناء الزاوية استعدادهم، وأخذوا يتصيدون الأخبار عن إقامة المزمار في أي ركن من أركان حارة الصهريج. ولم يكن محمدوه ينتظر تكليفا أسريا يشغله ويحرمه مشاركة أبناء حارته في الثأر، وعندما وجد أمه تكلفه بالذهاب لمكة لتحقق من خبر العثور على عمته أظهر تبرما ورفضا لم تعهده منه. ترفض أوامري يا محمدوه. حاول جاهدا دعوتها لتأجيل طلبها، إلا أنها أقسمت عليه أن يمضي من حينه ويأتي لها بخبر عن عمته. كان قد اتخذ استعداده لخوض معركة الثأر منذ أن وعد بذلك، فعمل على تجهيز شوم ليقارع به وقت النزال، وفي بحثه عن شوم يليق برد اعتبار لإهانته، وفي بحثه أوقفه سعود الصعيدي وأهداه فرعا غليظا من شجرة السنط قام بتقليمه وغمره في حوض زيت وتشحيمه وتثبيت جلبة في طرفيه من جلد ثور أحكم تثبيتهما بلفة من سلك النحاس المقوى، وغدا يتدرب على تحريكه في الهواء بأصبعين من أصابعه حتى إذا أتقن التحكم في توجيهه لأي جهة جاء أمر أمه بالتوجه لمكة وتلقيه خبرا بموعد مهاجمة حارة الصهريج في نفس الليلة. ** ** استند حسين زومال على شومته ضاحكا: اختاروا ليلة شديدة الظلمة لإراقة دمائهم. كانت جملة محفزة للمسيري كي يظهر نشوته وهو يمسك بموقع الشج الذي أصاب هامته: هذا من حسن طالعنا ولكي يكون ثأرنا قاصما تجمع فتوات حارة الزاوية كقطيع ضباع، وتقاطروا في سيرهم متبعين خطوات حسين زومال الذي اختار اختراق الحارة من أسفلها، متجنبا المرور من الشوارع المتسعة مفضلا التسلل عبر الأزقة الملتوية لكي لا يصل خبر مهاجمتهم إلى مسامع أبناء حارة الصهريج. سار محمدوه ضمن مقدمة المجموعة، يهز شومته بثقة لا يعكرها إلا هاجس ندم تعاظم لاختراقه تلبية أمر والدته بالذهاب لمكة، وخشية من أن يصيبه ذلك التفكير بالخذلان، أخذ يبدده بحصر مهمة خروجه على الاقتصاص من فعلة إبراهيم عاشور، كان يحزنه أنه تجاوز طلبها من غير أن ينفذه، وهو الفعل الذي لم يرتكبه يوما من الأيام، فلم يتعود أن يعصي لها أمرا، وكلما برق وجهها في مخيلته تمتم باعتذارات متلجلجة كانت تسمع في بعض الأحيان حتى ظن به محمد كريم الخشية من المواجهة، فحاول تحميسه. اليوم سيعلو شأنك فلا تخف. وجد محمدوه في كلمة محمد كريم إهانة، فلكزه على خاصرته: لم أخف يوما، وهذا اليوم انتظرته طويلا، ولولا أننا مقبلون على أمر جلل لقطعت لسانك جراء هذه التهمة.. تضاحك كريم لامزا: أتمنى أن تفعل ذلك بأصابع إبراهيم عاشور. هاج محمدوه، وفتح ذراعيه لاصطياد جسم محمد كريم وألقى به أرضا واستل شفرته المخبأة في حزام جلدي ربطه على ساقه: سأبدأ بلسانك. ارتبكت المجموعة وظنوا أن هجوما مباغتا داهمهم فتصايحوا بالاحتماء فيما كان صوت حسين زومال: هذا الأحمق سيورث لنا فضيحة أخرى.