صاحت الحاجة فاطمة المهاجرة بابنها محمدوه غاضبة: هذه الكرة ستعطبك، فطوال النهار لا تفعل شيئا سوى الركض في الشوارع.. عاش محمدوه منذ طفولته عاشقا للعبة كرة القدم، لا يقدم على مؤازرة أمه أو معاونتها في أي عمل تقوم به، وإن أوكلت له مهمة من المهمات تعثر في إتمامها وأقبل على تلقي العقوبة مختارا طيعا، عشقه لكرة القدم قاده لمهنة تفرد بها بين بني جلدته. لم يبرع في كرة القدم بتاتا، ومع كل إخفاق يحققه يطالب أقرانه بفرصة إضافية لأن يجرب مهارته في أداء دور مختلف فأدى جميع الأدوار، لعب رأس حربة وصانع ألعاب ومدافعا وحارس مرمى إلا أن تواضع مهارته كانت تظهر عجزه الدائم في سد خانته، ومثل نقطة ضعف رئيسة في فريقه وغالبا ما تأتي انتصارات الخصوم عن طريقه. كل محاولاته لأن يصبح لاعبا باءت بالفشل وبرع في تهيئة أجواء اللعب وهي البراعة الوحيدة التي أبقت عليه في صفوف الفريق. بدأ مرانه بتكيف قطع القماش على هيئة كرة وركلها في اتجاهات مختلفة، من غير أن ترتد إليه، فيلاحقها من شارع لشارع، وما أن ينتهي من مرانه حتى يتسع لهاثه وتخور قواه. كرته تلك لم تكن جاذبة لأن يشاركه أقرانه مبادلة ركلها، وإن فعل أحدهم ذلك سرعان ما تتراخى أربطتها وتنبث لتتناثر قطع الأقمشة فلا يعدو أمام قدميهما إلا أوصال لأقمشة تنهي لهفة مواصلة لعبتهما. هذا الاعتوار بحث له عن حل لدى الخياطين، وقادته نصيحة الخياط مطشر لشراء شراب وحشوه بقطع من الإسفنج، فوجد عنتا بتدبر محتويات كرته الجديدة. وقف وسط سوق باب شريف مساوما الباعة في شراء فردة شراب واحدة، فأمسك بائع يمني بأذنه وجذبه للأعلى: «انت خجمة في حد يشتري فردة واحدة». ذلك التعليق كلف البائع اليمني خسارة ستة أجواز من الشراريب الصيفية، فما إن ترك أذن محمدوه حتى وجده يلتقط أجواز الشراريب وينطلق راكضا مختفيا عن الأنظار من جهة بائعي الخردوات، سرعة عدوه مكنته من الإفلات من ملاحقة البائع اليمني، وإن كانت الحجارة المقذوفة باتجاهه أصابت إحداها قحف جمجمته الصلدة التي استقبلت الارتطام من غير أن تفتح مساحة لجريان دم. ولأول مرة يقف على القمائم باحثا ومنقبا عن فراش إسفنجي عله يجده في مرمى الحارة، فظل متنقلا من مرمى لآخر حتى بلغ شارع السبعة القصور، ومن هناك عاد يسحب خلفه فراشين مهلهلين اقتعد بهما فيء شجرة الليمون ناتفا قطع إسفنج مختلفة الأحجام وحاشرا إياها في أحد الشراريب المسروقة. كان ظهور كرته الجديدة باستدارتها المنبعجة وتدحرجها البطيء أفضل من سابقتها، واستطاع إغراء بعض الصبية الذين لا يستطيعون مغادرة أبواب منازلهم إلى الأبعد بمشاركته اللعب، ولم يظهر غضبا سابق عهده حين يتم ضغط الأقدام على كرته الشراب، إذ كانت لديه مؤونة كرات عدة، فكلما تهتك شراب استبدله بشراب جديد.. هذه الكرة أبقته منزويا داخل الأزقة ولاعبا وحيدا مع مجاميع من الصبية الأصغر سنا، والذين لا يعرفون من اللعب إلا ما يشير به عليهم، وبرغم من توقه الانتقال للعب في ملاعب الحي الفسيحة، إلا أن تميزه بين هؤلاء الصبية جعله يرضى بأن يكون مسيطرا بميزتين: أن يكون صاحب الكرة والأمهر بينهم، واكتسب رضا إضافيا بالبقاء مغمورا بين صبية يوصفون بحمام البيت، إذ أن أمكرهم لا يشك بتاتا فيما تخبره به حتى لو قلت أنك تستطيع إخراج الشمس من إبطك. وقد راق لمحمدوه سلوكهم، فهم مسالمون مطيعون أسخياء، فطابت نفسه بالمكوث والتفاني في تجهيز اللعبة بما يرضيهم. كان بينهم طفل تفتقت وسامته مبكرا شاغل محمدوه بشغبه ساخرا من أي فعل يقوم به، فتعمد دفعه على الجدار، مثبتا كرة الشراب أسفل قدمه، وكان يظن أن فعلته تلك ستمضي كأن لم تحدث، إلا أنه وجد شحمة أذنه تفرك بحصى صغير بين أنامل يد عاشور باجو وصراخ يقطع وجهه: يا فقي لو عرضت علي بكيس ملح ما اشتريتك. شعر محمدوه بأن جلده يسلخ عن أذنه، فحاول التخلص بإثناء رقبته والإمساك بيد الباجو مظهرا توسلا ركيكا، لم يستجب له عاشور، وفي شدة انفعاله دفعه على الجدار وثبت وجهه على جهة ملساء دهنت بماء النورة وسحبه لنهاية السور، مرددا: ما زلتم عبيدا، فإن تحررتم فلن تخرجوا من جلودكم.. وأنهى ترديده بركلة صوبها على مؤخرة محمدوه: لا أريد أن أراك في هذا الشارع.. أفهمت أم أعيد. لم يعد محمدوه يصل إلى بيت عاشور بتاتا حتى ولو كان مشواره يقتضي عبور ذلك الشارع، فإنه ينعطف نحو الجهات الشرقية أو الجنوبية وينفذ من شوارع موازية. وقد لاحقته التهم من أنه يلجا إلى سلب أولئك الأطفال مصروف العصرية أو يجبرهم على شراء ما يشتهيه ويأكله نيابة عنهم، هذا الفعل شاع بين البيوت التي اتخذها محمدوه ملعبا له ولمن رغب مشاركتهم اللعب. لم ينس التأديب المجاني الذي تلقاه من عاشور باجو، فظل يلاحق إيذاء طفولة بالمتابعة اللصيقة في المواقع التي يتواجد فيها متحرشا به بالقول، فيلحق به في مشواره المدرسي أو أثناء شرائه من البقالات المتناثرة في الحي أو في طريقه إلى المسجد، غدا كظل لا يؤذي لكنه يتبع. كان إبراهيم يتجنب شراسته فلا يعلق على مقولاته أو يمكنه من اللحاق به... وكان كل منهما يوقد شرارة صدره بطريقة ظاهرة لكل منهما. ** ** تضاحك أبناء الحي على محمدوه حين حضر إلى ملعب الحي يحمل كرة الشراب التي أتقن خياطتها ويعرض عليهم مشاركته اللعب خرج من تلك الواقعة يحمل لقب (كرة الشراب)، وغاب عن الملاعب مكتفيا بمرانه داخل فناء بيتهم وتحريض أخواته على مشاركته اللعب لكي لا يظل يلهث خلف كرة لا ترتد. كانت الكرة التي يلعب بها أبناء الحي خفيفة تبدو ناصعة البياض ذات استدارة مستوية تمكنها من التدحرج بسرعة نحو الاتجاه الذي يسدد إليه، ولم يكن قد لمح مثلها سابقا، وقد أغراه شكلها بأن يبدأ في تجميع القرش الذي يحصل عليه في بعض العصاري لشراء كرة مشابهة، فظل أياما طوالا لم يجمع ربع ريال، إذ شحت موارد والدته وجاهدت لتوفير الخبز والإدام له ولبقية الأسرة.. في إحدى العصاري، ومن خلال استراقه السمع لبعض الصبية الجامعين لأغلفة صابون لوكس وأعقاب كراتين التايد، تهادى إلى سمعه إحصائهم لتلك الأغلفة والأعقاب وارتفع صوتهم بأنه لم يتبق إلا تسعة أغلفة ليتمكنوا من إحضار كرة جديدة. وما إن أفرغ أذنيه مما سمع حتى انطلق صوب مرامي القمائم المنتشرة في زوايا وأركان الحارات القريبة والبعيدة باحثا وجامعا لأغلفة صابون اللوكس وأعقاب التايد. جمع الكثير منها، إلا انه لم يكن يعلم إلى أين يذهب بها أو كم العدد الذي يحتاجه للحصول على الكرة التي غدت أمنيته الوحيدة. وفي طريقه إلى الحي كان التعب قد أكل منه، فلمح عربة السقا داود الأعور المتجهة إلى جهة بيتهم، فغافل السقا واستكان على عمود العجلتين الخلفيتين ممسكا بكيس قرطاسي إئتمنه على كل ما جمع من مرامي القمائم، وفي انعطافة الشارع المؤدي إلى بيتهم تخلى عن جلسته وهبط هبوط المتدرب على تكرار تلك الفعلة، وأمام عبدالله المحجوب نثر محتويات كيسه: عم عبدالله هل تكفي هذه كي أحصل على كرة. نهض المحجوب من أمام دكانه الصغير وأمسك بمحمدوه من فنلته الحائلة صائحا ومناديا بالمقتعدين على مسافة قريبة من دكانه: تعالوا وشاهدوا سرقة هذا الكلب الصغير... انظروا ماذا فعل؟ بهت محمدوه من ذلك الصراخ وانشغل بصد الصفعات التي كان ينزلها المحجوب على رأسه، وهو ما زال يحرض الذين استجابوا لصرخاته: هذا الإبليس غافلني وسرق أغلفة الصابون التي مضى علي زمن وأنا أجمعها. دفع البوابة الخشبية المتصدعة لمنزلهم متناشجا وشاكيا لأمه عما فعل المحجوب، متمنيا إنصافه بالذهاب معه لاستعادة ما جمع، ومع تمنعها تباكى وقبل أن يمتد بكاؤه لطمته على وجهه: تعلم بأن هناك بشرا كالآبار ما يسقط فيها يغرق، والمحجوب بئر مظلمة من الظلم. لأول مرة يشعر بالغبن وأمنية القفز على سنوات العمر، وتخيل لو أنه كان كبيرا وقادرا على أخذ حقه بيده، وظلت تخيلات فتوة نموه تعتمر رأسه ليقف بها في مواجهة المحجوب ويشبعه ركلا وضربا ويتمادى في قهره بإسقاط سلع دكانه من رفوفها على الأرض. أغمض جفنيه على تخيلات استعادته لما أخذه المحجوب منه وحصوله على الكرة التي عبثت بأحلامه طوال الليل. ** ** منذ أن عرف التنقيب في القمامة عرف كيف يدبر احتياجاته، ولم يعد ينتظر مصروفا من أمه، بل أغراها أن تساعده في جني أرباح تفوق ما يحصل عليه، ولم يكن هذا العرض في الفترة المبكرة التي اكتشف فيها منجم القمامة، بل في مرحلة تالية حينما استوثق أن هناك من يشاركه تقليب القمائم ومسابقته إليها بأعداد من أفراد أسرته. كان يقضي النهار بين الكتاتيب والقمائم، فلا يحصد في الأولى إلا عصيا متوالية من مدرسته خديجة منور، وينسى لسعات عصيها عندما يبيع ما جمعه من توتوة وأسلاك نحاس. أصبح قادرا على توفير مال وشراء كرة (فرتبول) تفوق كرات بن داود البلاستيكية التي يوزعها على جامعي أغلفة صابونه. هذه المقدرة غطت على عجز مهاراته الكروية، وأصبح مطلبا لكل تجمعات أبناء الحارة، إذ أبرم معهم اتفاقا بأن يلعب في الخانة التي يريد مقابل توفير كرة، وإن تمكن من زيادة غلته شرى مشروب التوت لترطيب قلوبهم اللاهثة طوال فترة العصرية. ** ** ضمر صبر أفراد الفريق على فشله الذريع من أن يتحسن في أي موقع يوضع فيه، وقد حمل لواء هذا الضجر أحمد ذياب بعد أن تلقى فريقهم هزيمة ساحقة انتهت بثمانية أهداف كلها عبرت المرمى، وكأن محمدوه لا يقف في موقعه بتاتا، فقد أقسم عبادي مساوى أن الكرات التي صوبت على مرماهم لم تتجاوز الثمان تصويبات، وكلها سكنت المرمى، ولكي يسقط بقاء محمدوه في الفريق أسقط تبريرات معوناته، فاقترح التخلي عن تلك المعونات والاعتماد على اقتسام تكاليف مباراتهم بدلا من أن يتحولوا إلى سخرية بقية الفرق ومحطة استراحة لكل فريق... وعندما أحس محمدوه أنه سيفقد الدور الأساسي بالفريق تفتقت مخيلته عن إعلان الاعتزال والاستعداد الكامل بتحمل نفقات الفريق مقابل أن يصبح مدربا لهم. ** ** هل اللاعبون إلى ملعب المسامير تدفعهم الأزقة المحنية وهم يمنون أنفسهم بقضاء وقت ممتع من اللعب، ومع وصولهم وجدوا محمدوه مرتديا زيا جديدا ويحمل صفارة ينفخ بها كل حين صائحا بهم: اجمع.. اجمع. فتقافز اللاعبون إلى داخل الملعب المعد أساسيا لإنزال شاحنات الخشب والتي تناثرت من صناديقها المسامير الصدئة، ومع تجمعهم حاول محمدوه أن يمرر لهم خبر تلف الكرة بسبب مسمار اخترق (لستكها) حينما كان يركلها ليعرف إلى أي مدى يمكن له إيصالها، فتصايح اللاعبون: كيف لنا أن نلعب من غير كرة؟ شعر محمدوه بالغبن الشديد وحاول تغطية هذا النقص بالأعذار المتلاحقة خشية من مواصلة لوم أقرانه الذين منحوه لقب مدرب، فتوالت اعتذاراته من غير ذكر سبب عدم تمكنه من تدبير شراء كرة احتياطية: ليكن اليوم تمرين سويدي. اقتراحه لقي معارضة شديدة من اللاعبين وسارع الكثير منهم إلى مغادرة الملعب والتراكض باتجاه ملاعب الميناء لمشاركة الفرق الأخرى اللعب بدلا من الإحماء على صوت محمدوه الذي لا يجيد دور المدرب بالطريقة المثلى كآخر تهمة تلصق به.