كان هنا سوق، وكانت هناك حركة، بائع يرمي بثقل حلاله، ومشتر يرمي بثقل أمواله، فتستسلم المواشي، لسكين الجزار، وتتناثر الدماء على صيحات البسملة والله أكبر. وعلى امتداد أشهر وسنوات، كان الحراك مستمرا، والمشهد واحدا، سكاكين جزارين، ومواش تدخل حية فتخرج لحوما تسر أصحابها، إلا أن الحال تغير فجأة وباتت الدماء الجافة لا أثر لها، فلا صوت لمأمأة خروف ولا ثغاء غنم ولا حتى رغاء إبل، لكن الأصوات تبدلت فأصبح البعض يستمع إلى ما يشبه المأماة والثغاء والرغاء، هكذا يقولون، ليدب الخوف في الموقع، وتتعالى الاتهامات تحت مصطلح واحد شعاره «المسلخ مسكون بالجن والعفاريت». اليوم يتحدث الأهالي في تبوك عن المبنى المهجور منذ سنوات، والذي كان يعرف في السابق بمسلخ تبوك المهجور، ولا جدال في أنه مسكون، فيما لا افتراء في أنه مهجور، لتنسج حوله عشرات الحكايا والأساطير، وكلها تدور حول استيطان نفر من الجن ذلك المكان، الأمر الذي جعل بلدية تبوك آنذاك تفكر في مبنى آخر بحسب بعض الأهالي. لكن الأمر لم يتوقف على الرحيل من الموقع، بل بدأ الأهالي يتناقلون مرة الحكايات ومرة الأساطير والتي من الصعب تصديقها رغم الإيمان بوجود الجن على الأرض. يقول عبدالهادي السالمي من سكان مدينة تبوك «مررنا قبل سنوات من أمام المسلخ القديم باتجاه المزارع وكان الوقت ليلا حينها، وفجاة وبلا سابق إنذار انطفأت مصابيح السيارة، لنقف قليلا أنا ومعي مجموعة من الأصدقاء للبحث عن العطل، حينها سمعنا أصوات غريبة أشبه بأصوات الذئاب يتداخل معها أصوات عصافير، دخلنا الشك بوجود الجن في نفس المسلخ، وقمنا فورا بذكر الأذكار والآيات القرآنية، وما هي إلا دقائق حتى عادت الأنوار في مصابيح السيارة تعمل، وهرعنا مسرعين بعيدا عن المكان. ويروي أنور البلوي قصة مماثلة سمعت كثيرا عن المسلخ المهجور في تبوك لذلك عزمت ومعي مجموعة من الأصدقاء على زيارة المكان، ومعنا عشاؤنا بنية الدخول في المسلخ وتصوير المكان ليلا، إلا أننا بمجرد دخولنا مع بوابته الرئيسية سمعنا أصواتا غريبة داخل المكان لذلك لم نجرؤ على دخوله في ذلك الوقت، وفضلنا دخوله في النهار وهو ما حدث فعلا دون أن نسمع شيئا أو حتى نشعر بأشياء غريبة. على النقيض من ذلك يؤكد سطام السهلي أنه قد دخل المسلخ قبل ثلاث سنوات لكنه لم يشاهد أمرا مريبا في المسلخ ولا يعتقد بوجود الجن بداخله. ولأن كل الأحاديث تظل مجرد روايات يؤكدها البعض فيما يفندها البعض الآخر، قررنا خوض التجربة، توقعنا أن تكون جولة مليئة بالرعب والإثارة، للكشف عن حقيقة تلك القصص، وتوقعنا أن نشاهد كائنات ضخمة غريبة تمد رأسها من النوافذ بانتظارنا، إلا أن الواقع وحقيقة المكان تختلف تماما عما ذكر لنا وما سمعناه من حكايات. كان الطريق إلى المسلخ القديم ضيقا ووعرا وليس بالسهولة الوصول إليه، وصلنا المسلخ في الصباح الباكر تحوطه أكوام المخلفات بطريقة عشوائية منافية تماما لضوابط رمي المخلفات التي وضعتها أمانة تبوك، تجاوزنا تلك المخلفات بصعوبة بالغة حتى دخلنا مع البوابة الرئيسية للمسلخ، فوجدناه على حاله القديمة غرفه مظلمة ومهجورة، وأبوابه متكسرة، وأتربة متناثرة يقبع فوقها أكياس من القمامة والأوساخ. تجولنا في المكان، ووجدنا عددا من الغرف لا زالت بحالة جيدة، وصالة استقبال كبيرة تنبعث منها روائح كريهة، حيث تنتشر عظام الحيوانات في المكان، وصالة الذبح القديمة على حالها مع انتشار روث البقر والضان والإبل على أرضية المكان، فيما جدران المسلخ باتت منتكة من العابثين بالعبارات القبيحة، بينما هناك حفر يبدو أنها مستغلة من ضعاف النفوس ومتعاطي المخدرات والخمور. على بعد أمتار من المسلخ وجدنا عاملا آسيويا، يعمل مزارعا في مزرعة مجاورة سألناه عن حال المسلخ، فأكد أنه لم ير يوما أي شيء داخل المسلخ أو بالقرب منه يمكن أن يعتبر أمرا خارقا للعادة، لكنه لا يخفي أن المسلخ يدخله كثير من الأشخاص المجهولين في أوقات مختلفة وهو ما يثير الريبة والقلق أحيانا. عندها أدركنا أن روايات الجن والعفاريت، ربما كانت غطاء تحمي المتعاطين أو حتى تجار السموم على أنواعها أي مراقبة أو حتى زيارة. من جانبها، اعترفت أمانة تبوك على لسان الناطق الإعلامي المهندس إبراهيم الغبان أن المسلخ القديم لا يزال على أملاك الأمانة، مؤكدة أنه سيتم الاستفادة منه في حال نقل حراج الأغنام لموقع الخدمات الجديد شرق مدينة تبوك.