يعتقد البعض أن صحراء الربع الخالي بكثبانها الرملية، وقسوة بيئتها الطبيعية، وتقلباتها الجوية، ووعورة الطرق فيها، ستكون عصية على رجال حرس الحدود، إلا أن جهود الدولة في دعم هذا القطاع لتهيئة كل ما يمكن من متطلبات لإنجاح الأعمال الميدانية والأعمال المساندة الأخرى ذات الصلة بجاهزية الآليات والمعدات، وقبل كل ذلك تضحيات الرجال الذين لا هدف لهم إلا حماية الوطن ومواطنية من المهربين والمخربين، أسهمت جميعها في فرض السيطرة الكاملة على طول الحدود وسد الثغرات، بعد أن شيدت المجمعات النموذجية في قلب الصحراء، وعبدت الطرق، ونصبت الحواجز والسواتر الترابية، لتكون بعد عون الله سبحانه وتعالى سدا منيعا لأمن الوطن واستقراره، عزز ذلك القرار الذي اتخذته وزارة الداخلية في الاستفادة من طيران الأمن لدعم قدرات الدوريات والعاملين في الشريط الحدودي على ضبط الحدود من خلال الرحلات الجوية الاستطلاعية التي أوصلت رسالة إلى المهربين مفادها أن كل من يريد الإخلال بأمن الحدود لن يفلت من قبضة الدوريات لأنه سيكون تحت السيطرة الأمنية بما في ذلك الملاحقة الجوية. أقلعنا من مطار شرورة عند العاشرة صباحا، بعد تزود الطائرة بالوقود، حيث انضم إلينا العميد سعد العنزي مساعد قائد قطاع خباش، وهو القطاع الذي نستكمل جولتنا في حدود مسؤولياته التي تشتمل على البتراء والوديعة والمعاطيف وأم غارب وأم الملح والخرخير والخور، وبعد إطلالة جوية أخرى على محافظة شرورة الحالمة، كان المرور الأهم بمركز الوديعة الحدودي، حيث شاهدنا من الجو جبل «قرن الوديعة» الذي شهد الملحمة البطولية للجيش السعودي في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز -يرحمه الله-. توجهنا في جولتنا نحو مجمعات حرس الحدود الموزعة في الصحراء، والطائرة تموج بنا يمينا ويسارا بسرعة تصل إلى 220 كم في الساعة، نتيجة للتيار الهوائي الصحراوي القوي، إلا أن قائدها طمأن الجميع، بأن الوضع طبيعي ولا يدعو للقلق، وفي هذه الأثناء كان العميد سعد العنزي على تواصل مع قائد الطائرة ومساعده عبر أجهزة التواصل في الطائرة، لتحديد بعض المواقع التي يجب المرور عليها للوقوف على طبيعة العمل فيها جوا، وفجأة التفت إلي العميد العنزي وقال نحن الآن نمر بمحاذاة الوديعة متجهين إلى مجمع المعاطيف، وما نشاهده من سواتر ترابية وصبات خرسانية والتي تقع في الناحيتين الشرقية والغربية من مركز الوديعة، والعوائق الترابية التي تقع غرب مجمع المعاطيف أعطت النتائج المأمولة وشكلت سدا منيعا في وجه مهربي المخدرات الذين كانوا في وقت مضى يسرحون ويمرحون، مؤكدا وبلهجة حازمة بأنه لا مجال لأي مهرب بأن يخترق الحدود السعودية المحاذية لصحراء الربع الخالي خاصة في ظل الدعم الكبير من سمو وزير الداخلية والمتابعة المستمرة من سمو أمير منطقة نجران، موضحا بأن طيران الأمن بوزارة الداخلية الذي تقلنا إحدى طائراته، عزز من قدرات الدوريات والعاملين في ضبط الحدود ذات التضاريس الصعبة التي نشاهدها. مطارات صحراوية ونحن نمر بمحاذاة مجمع المعاطيف -الذي سبق وأن زرناه برا- وبارتفاع منخفض، كان المنظر مختلفا حيث شاهدنا صرحا رابضا في الصحراء وكأنه أحد فنادق ال5 نجوم، وأخبرنا العميد العنزي بأننا سنهبط في مجمع أم الملح الذي لم يسبق لنا زيارته للتزود بالوقود، وهنا بادرته بالسؤال: وكيف ستهبط الطائرة في الصحراء، فقال إن من بين مرافق بعض المجمعات التابعة لحرس الحدود بمنطقة نجران مهابط للطائرات تستخدم عند الضرورة، وهبطنا في أم الملح حيث كان في استقبالنا قائد المجمع النقيب علي الغانمي وعدد من الضباط والأفراد، وبعد استراحة قصيرة في ضيافة المجمع، قمنا بجولة في بعض مرافق المجمع وخيل لي أننا في مجمع المعاطيف، وعلمت فيما بعد أن جميع المجمعات شيدت وفق تصاميم موحدة، وقال لي النقيب الغانمي إن المجمع الذي تحيط به الكثبان الرملية يضم جميع الخدمات الضرورية التي يحتاجها العاملون، وأنه مؤمن تماما ولم يسبق أن تعرض لأي خطر لأن الحراسات مشددة والرقابة محكمة، وأضاف أن جميع العاملين من ضباط وأفراد ورغم غيابهم عن أسرهم لفترات طويلة، إلا أنهم في المقابل يتمتعون بمميزات تعوضهم عن هذا الغياب من بينها أنهم يبقون على رأس العمل لمدة شهر ويتمتعون بمثلها كإجازة يقضونها بين أسرهم، إضافة إلى الخدمات التي يوفرها حرس الحدود لهم وهم يعيشون في قلب الصحراء، مشيرا إلى أن هذه الخدمات تضاهي -إن لم تكن أفضل- ما يقدم في المدن. التوجّه للخرخير أقلعنا من مجمع أم الخير وتوجهنا إلى الخرخير وسط ظروف جوية صعبة، حيث الرياح الشديدة تأخذ الطائرة في كل اتجاه، ورغم كل ذلك استمتعنا بمشاهدة طبيعة الأرض ذات الرمال المتحركة، وقال العميد سعد العنزي، ونحن نمر بمحاذاة الخرخير إن مجمع الخور يعتبر نقطة نهاية مسؤوليات قطاع حرس الحدود بمنطقة نجران، سألته عن بعض الغرف التي تبدو لنا بين الحين والآخر في بعض المواقع في قلب الصحراء فقال إنها للشركة المنفذة لمشروع سياج القارديل الذي يبدأ من حدود نجران شرقا وينتهي بآخر نقطة غربا على الحدود مع اليمن وسلطنة عمان، موضحا أن هذه المساحات الشاسعة شهدت الكثير من الانجازات البطولية لرجال حرس الحدود الذين سطروا اروع مثال في الدفاع عن وطنهم، ومواجهة المهربين بإرادة لا تلين وعزم لا تهزه أو تؤثر فيه تهديدات المارقين. الطيران الخاص وأنا أقف على الظروف التي يعيش وسطها ضباط وأفراد حرس الحدود سألت العميد العنزي عن كيفية وصولهم إلى أهاليهم، خاصة من يسكنون في مناطق بعيدة، فقال إن سمو وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف وجه بتخصيص طائرات تقوم برحلات جوية متواصلة ومجدولة بطريقة تتوافق مع أوقات العمل، لنقل منسوبي حرس الحدود بمنطقة نجران -وتحديدا قطاع شرورة- من مواقع عملهم إلى مناطق سكنهم ذهابا وإيابا، مشيرا إلى أن هذه اللفتة كان لها أكبر الأثر في نفوس العاملين وذويهم، مضيفا إن هذا الاهتمام كان له مردود معنوي واجتماعي ونفسي ومادي على رجال حرس الحدود. قبل مغيب الشمس أنهينا مهمتنا، وعدنا إلى مطار شرورة للتزود بالوقود وتوديع مساعد قائد قطاع شرورة العميد سعد العنزي، وأمضينا أكثر من نصف ساعة في ضيافة وحدة الدفاع الجوي، لنواصل رحلتنا إلى مطار نجران الذي وصلناه ومعنا العميد عبدالرزاق آل عيسى مدير إدارة العمليات بقيادة حرس الحدود وعدد من الضباط، الساعة السابعة مساء أي بعد 12 ساعة من إقلاعنا صباحا، وكان مطار نجران المحطة الختامية لجولة على جميع قطاعات حرس الحدود بالمنطقة، وقفنا من خلالها على أهم المشاريع التي أنجزت وما يجري تنفيذه، والظروف التي يعيش وسطها رجال نذروا أنفسهم لخدمة وطنهم ومواطنيهم، وسطروا أروع البطولات للمساهمة في بسط الأمن والأمان وتحقيق الاستقرار. ساعدنا في انجاز مهمتنا وتابع تحركاتنا أولا بأول قائد حرس الحدود بمنطقة نجران اللواء محيا العتيبي، الذي قال لي قبل أن أباشر مهمتي «أرجوك أن تساعدنا بطرح ملاحظاتك، لا نريد المديح أو الإطراء، فما نقدمه أقل واجب تجاه وطننا وقيادتنا»، وبعد أن أنهيت جولتي قلت للواء العتيبي «لقد وجدت ما يثلج الصدر، ويسر الخاطر، ويرفع الرأس، كيف لا والمشاريع العملاقة تنفذ لحماية حدودنا، ورجال حرس الحدود يضحون بأنفسهم من أجل أمننا وحماية وطننا».