المشاهد ل«فيلم قصة حمزة شحاتة مما جرى في بطحاء مكة» التسجيلي لمخرجه محمود صباغ، يأخذه الحس السينمائي الذي يمكن أن نطلق عليه الحس الأسطوري، ذلك الإحساس الذي يلمسه المتلقي عند مشاهدته للأفلام الملحمية التي تتناول سير حياة الخالدين المؤثرين في التاريخ الإنسان. ولا سيما أن الفيلم يحكي في 43 دقيقة قصة الأديب السعودي حمزة شحاتة (1910 1972)، أحد التنويريين المؤسسين للحركة الأدبية الحديثة في الحجاز والسعودية مع كوكبة من مجايليه طوال عقد الثلاثينات الميلادية. ينطلق الفيلم من المحاضرة الشهيرة التي ألقاها شحاتة في جمعية الإسعاف في مكة عام 1940م تحت عنوان «الرجولة عماد الخلق الفاضل»، وكان حضرها عدد كبير من المثقفين والأدباء والوجهاء والأعيان، وشكلت حدثا مفصليا في الثقافة المكية والحجازية، بل أثرت في ثقافة عموم أبناء المملكة، وهي دولة فتية آنذاك تتطلع إلى بناء إنسان ووطن متكامل.. تلك المحاضرة المطولة التي استمرت نحو أربع ساعات حوت أبعادا فكرية ومضامين فلسفية، يرى سعيد السريحي أن حمزة شحاتة كان يريد من خلالها «أن يكون تفكر الأمة كتفكير سقراط وشجاعة المتنبي وجرأة العقاد». نستمع ونشاهد لشهادات عدد من الأدباء والمثقفين والناشطين: عبدالله مناع، وحمزة فودة ومحمد سعيد طيب وسعيد السريحي وعبدالله أبوالسمح وعبدالله خياط وحسن أشعري وعبدالرحمن بن معمر ومحمد صالح باخطمة مع حفظ ألقابهم ومكانتهم المرموقة ومع انثيالات الرسوم الكرتونية، التي لا تخلو من حس فكاهي في غير محل، ربما لكسر صرامة الطرح، لكنه توظيف يعتريه الخفوت، وبظهور الصور الفوتوغرافية القديمة واللقطات السينمائية الأرشيفية دارت دقائق الفيلم في غير رتابة، بل في احترافية محسوبة الزمن، ما يؤكد دقة العمل المونتاجي الذي قام به المخرج مع وليد علوي، خصوصا في توافق المرئي مع المسموع، يلمسه المشاهد أيضا من خلال الصورة التي انتقت زواياها عدسة الكاميرا الرشيقة لمدير التصوير، بما يمكنها من تحقيق تناسق في حجوم كوادرها وأبعاد مسافاتها وتوازن إضاءاتها. تفاصيل عن عاداته وخصاله ومآثره يتناوب على سردها صديقاه عبدالله أبوالسمح وحمزة إبراهيم فودة، وهما الشاهدان على عصره وأيامه، ربما لحقاه بسنوات، لكنهما عرفاه وتشبعا بفكره، فيما يقرأ سعيد السريحي صورا لحمزة شحاتة تظهره وهو ممسك بكتاب جبران: «كأنما يريد أن يقدم شهادة للمجتمع على المرجعيات الثقافية التي ينبغي أن يعود إليها، وكأنه يقول إنني أعلن ما يخفيه الآخرون». ينبه الراوي: «لكن شحاتة دفع ثمن موهبته غاليا».. يقول عبدالرحمن بن معمر إن شحاتة «أدركته مأساة الأديب ومحنة الفيلسوف، فعندما يجلس مع العامة يشعر بالغربة؛ لأن الناس لا يستوعبون ما يقول، فلم يستطع العيش في المناطق الضيقة، ورحل إلى مصر» عام 1952. لكننا لا ننسى شذرة شحاتة في محاضرته عندما قال «وأنا لست أعرف معنى لهذه الحرية، بيد أني ألفت أن أطلق لفكري عنانه، فهذا عندي أخلق بأن يجعلني أكثر شعورا بحياتي، وفهما لها، وأنا طامع بعد في أن تحمدوا لي نتائج هذه الحرية إن شاء الله»... هو التوق للحرية إذن. وتمضي قصة شحاتة ليخبرنا معاصروه أنه اشتهر في الثلاثينات بسجاله الشعري مع الشاعر محمد حسن عواد في مكة، ونشرت تلك السجالات بصحيفة «صوت الحجاز» صحيفة البلاد فيما بعد، ولكن الصحيفة توقفت عن إكمال نشرها بعد أن تجاوز مداه. غير أن الفارسين شحاتة/ هول الليل، وعواد/ أبوللو قاما بعد ذلك بكتابة السجالات بخط يدهما وتوزيعها على المجتمع المكي الثقافي، وتأجج الصراع حتى بلغ الاختلاف أوجه، حيث عرضه الفيلم في طرفة بصرية كرتونية تظهرهما ملاكمين في حلبة مصارعة، وإن كان مثل هذا التوظيف غير مستخدم في السينما الوثائقية الرصينة. يوضح الفيلم للمشاهد أن نص محاضرة «الرجولة عماد الخلق الفاضل» كاد يضيع، إلا أن عزيز ضياء أحضر إلى مؤسسة تهامة النص الأصلي بخط يد حمزة شحاتة، فعملت المؤسسة بإشراف محمد سعيد طيب على طبع المحاضرة وتوزيعها. تقترب نهاية الفيلم مع صوت طلال مداح يتغنى ب (بعد صفو الهوى وطيب الوفاق/ عز حتى السلام عند التلاقي/ يا معافى من داء قلبي وحزني/ وسليما من حرقتي واشتياقي/ هل تصورت ثورة اليأس في نفسي/ وهول الشقاء في إطراقي؟). ينتهي الفيلم برسوم متحركة ساخرة للرسام محمود زيني، رسوم ليس لها مكانة إلا إحداث بعض التشويه في هذا الفيلم الجميل.