تسقط على الجدار المقابل لنافذتي أربع شموس!: أصفر يبرق كالذهب، وبرتقالي مشوب بحمرة، وأخضر معشوشب، كذلك أزرق كالبحر .. قوس الشموس المشعة هذا يزور حجرتي كل شروق، يجلس على المقعد الخشبي الخفيض ثم يعتلي الطاولة المحفورة، وقد يحلو له أن يستلقي على سريري وربما تنهض تلك الشموس الأربع فتخطو بضع خطوات فوق الأرض الملونة. لكني لم أرها قط طوال فترة إقامتي بهذا الفندق المطل على ساحة الفناء تلامس القنديلين المتدليين النحاسيين، أو السقف العتيق، ربما لأنه يتعذر أن يعانق نور الله نور البشر المزيف!. ذات صباح لم تزرني الشموس المراكشية، تلمست رتاج النافذة البارد ونقوشه التي تعلوها نصف دائرة زجاجية ملون، و أصوات السابلة تأتي من خلفها متنوعة متشابكة. دفعت درفتي النافذة المراكشية للخارج، بدا لي منظر ساحة جامع الفناء المرابطية شاسعا وواسعا... هناك في البعيد مئذنة المسجد الشاهقة مغموسة في محبرة السماء التي ارتدت وشاح الغيم الرمادي الرقيق، وقد ازدحم أسفلها جحافل جند ملثمين، خيول دهم وبيض، لمعان سيوف ودروع على صدور الفرسان وجنبات خيلهم الوفيرة، مشاة بحراب طويلة، ودواب تحمل خياما وقدورا نحاسية قد تراكم عليها سناج الحطب والطبخ، يتخافت بينهم نساء يعلو منهن زغاريد ونواح. ثم تلاشى المشهد وخلت ساحة الفناء لبرهة. أبصرت ديمة سواد تقبل من بعيد! كانت قافلة عير تشق غبار الصحراء قادمة من تمبكتو، دنت ثم دنت في انتظام عجيب حتى توسطت الساحة فانتشرت وانتثرت تلال جمال باركة لها رؤوس متلفتة يمنة ويسرة في شموخ. خرج من أبواب مراكش تجار الحلي فقايضوا الملح بذهب. توالى التجار غدوا ورواحا حتى أتى القصابون ليقتادوا داخل أسوار المدينة زرافات الجمال. بقيت الساحة ساكنة خاشعة ثم تقاطر من باب جامع الفناء دراويش بجبات وقفاطين بيض وعمائم خضر، يتبعهم طلبة يحملون ألواح خشبية، وأقلام ومحابر، يعبرون إلى أزقة مراكش، والهواء البارد يتسلل داخل أجسادهم ورقع أسمالهم. كانت السماء من فوقهم قد زال عنها رداء الغيم الرمادي، واستبدلته بالتهاب شفيف يلثم شفاه المغيب القاني. بعد أن أتم الليل نصب خيمته وشد أطنابها وعست القناديل بين الدروب تنوس عتمة المدينة، فورا أقفلت نافذتي وعيناي ترفلان بأمنية: أن يهبني القمر تلونات أربعة تنعكس على جدار حجرتي المراكشية.