أما في وادي النيل، فقد تألقت أغنية «الورد جميل» شدت بها أم كلثوم، وشدا بها عبد المطلب، وهنا يحضرني إحدى القراءات السابقة في الصحافة المصرية، وكان الكاتب يستعيد أيام الخمسينات ومدى ارتباط المصريين بأم كلثوم وعبد المطلب، إذ كان راديو القاهرة يبث ليلة الأربعاء أغاني لعبدالمطلب، ويبث أغاني لأم كلثوم ليلة الخميس، فأطلق المصريون «على ليلة الأربعاء ليلة الحنة، و ليلة الخميس ليلة الدخلة»، و كأنه عرس أسبوعي من طرب يسعد به المجتمع كله، فيا لها من صورة اجتماعية رائعة! الورد جميل .. جميل الورد الورد جميل.. وله أوراق عليها دليل من الأشواق إذا أهداه حبيب لحبيب.. يكون معناه وصاله قريب.. شوف الزهور واتعلم بين الحبايب.. تعرف تتكلم والنرجس مال.. يمين و شمال.. على الأغصان.. بتيه ودلال عيونه تقول.. معانا عزول.. خلينا بعيد عن العزال شوف الياسمين.. جميل نعسان.. حلي له النوم على الأغصان بكل حنان تضمه الإيد .. وبه تزدان صدور الغيد يا فل يا روح.. يا روح الروح.. من شم هواك عمره ما ينساك لكل حبيب.. تقول بلغاك.. حبيب مشتاق بيستناك في صورة أخرى، يتالق الفنان المبدع صالح عبدالحي في أحد أدواره الطربية في أغنية: ليه يا بنفسج والتي تحمل أيضا الحيرة و التساؤل والانبهار بجمال ورد البنفسج: ليه يا بنفسج بتبهج.. وانت زهر حزين والعين تتابعك.. وطبعك محتشم و رزين هكذا يزلزل صالح عبدالحي في أدائه الأسطوري وصوته في طبقة (الصول) العليا كيان المستمع.. كل حواسه الخمس والعشر الأخرى، فنحن عندما نلهب حاسة من حواسنا الخمس تتولد حاسة أخرى مرادفة لها، لكن أكثر بعدا وعمقا وفنا!! فكيف يا ترى نحل لغز قول الشاعر الفذ: «عين تشربك شوف وعين تظماك!؟» وكيف نقول في أمثالنا: والأذن تعشق قبل العين أحيانا!؟ اللون الذي غنى به صالح عبدالحي يعتمد على الإيقاع الثقيل، ويتيح للفنان أن يتهادى مع الإيقاع البطيء، خصوصا في قدرة هذا المبدع الصوتية التي تتعدى التقليد. في الأدوار الكلاسيكية القديمة يبدأ المغني بمواويل متنوعة؛ مثل: فؤادي قلي تعلمت الهوى دا منين!؟ على روحي أنا الجاني وقلبي في هواك جاني! «مفارقة رهيبة، فلم يدرك أن له قلبا إلا في هوى محبوبته الذي صنع له قلبا!؟ ده الهجر يا روحي.. زاد الفؤاد أشجان.. ارحم بقى نوحي.. واسمح يا غصن البان. و في الختام (يا ليلي يا عيني) قبل الغناء و بطبقات صوتية مختلفة ليشعل ما تبقى من عواطف وأشجان السامع، وهذه كلها في الواقع تهيئة للمستمع للدخول في جو الأغنية في طقس غارق في الخيال والتأمل، وهنا نستعير صورة ذكرت في كتاب الموسيقى الشرقية، قسطندي رزق ص 49: فبدأ البلبل (يقصد عبدو الحامولي يغني في حضرة الخديوي إسماعيل) الصياح يغنيه أدوارا عربية تتخللها النغمات الساحرة والآهات التي طبقت نواحي السماء، فاجتذب إليه قلب الخديوي إسماعيل وصبت روحه إلى سحر الموسيقى العربية دون سواها، فكان يضع يده في جيب عبده كلما أعجبته نغمة من نغماته دون أن يعرف غرضه من ذلك (....)، ولما انتهت السهرة وخرج من السراي وضع يده في جيبه وإذا به 12 قرطاسا، وفي كل قرطاس مئة جنيه ذهبا، فناول من فوره رجال التخت قرطاسين .. وإذا أردنا أن نغوص في دلالات هذه القصة نجد أن الطرب الحقيقي الأصيل لا بد أن يكسر كل قلب من صخر ويأسر كل ذي ذائقة، وهنا ربما نستحضر صورة أخرى أكثر عمقا ودلالة على تأثير الشعر والموسيقى كوعاء إبداعي رهيب: (ما حدث لعمر بن أبي ربيعة يوم غنته عزة لحنا لها فيه شيء من شعره، فشق ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها، فلما أفاق قال القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب، فقال: والله إني سمعت ما لم أملك معه لا نفسي ولا عقلي) نفس الكتاب صفحة 47 نعود إلى المبدع صالح عبد الحي: ملفوف وزاهي... يا ساهي لم تبوح للعين في كلمة منك... كأنك سر بين اثنين من يستطيع أن يفك طلاسم الجمال؟ ما العلاقة بين السر والجمال، ثم ما السر غير القابل للبوح؟ كل هذه الأسئلة يطرحها الشاعر في هاتين الجملتين الصغيرتين ليجعل المستمع ليس فقط أسير الموال والصوت، بل أسير الإعجاب والتفكير في سر هذا الجمال.. حطوك خميلة جميلة فوق صدور الغيد تسمع و تسرق.. يا أزرق همسة التنهيد إنه حقا شيء محير، كيف استطاع هذا الشاعر صياغة هذين البيتين!؟ هذه الصورة هي قصيدة بمفردها، فهو يضعك في حيرة هل صدور الغيد زادتك أيها البنفسج جمالا أم انت بلونك البنفسجي أشعلت جمال مفارقة اللون؟ ربما من العبث تفسير هذه الأبيات أو أن التفسير بالعبارة ليس له مكان هنا... ثم في صورة أخرى: على شان الشوك اللي في الورد أحب الورد واستنى جرحه و تعذيبه من أغاني عبدالوهاب أتوقف عندها لإثارة جدل حول المقصود من هذا التصريح، وهنا لو سمع هذا الكلام غربي سيقول: ما هذا الكلام الفاضي!؟ ولماذا هذه المفارقة والالتفات إلى الشوك مع الورد؟ التغلي والتغنج على الحبيب شيء تقليدي في الحب العربي، ومن الطبيعي أن يستخدم كلا العاشقين طريقته وأسلوبه لسرقة قلب الآخر، وهذه الصورة تناولها الكثير في الغزل العربي لكن تبقى ضرورة لتفاعل الحب والعلاقة العاطفية، ولا أبالغ أن هذه الصورة لها بعد آخر بعيد المدى، إذ يمكن أن نقول إن الإنسان عندما يحب ويعشق حبيبته الزوجة والأخت والأم بدون تحديد، إنما يحبها مهما كان شوك وردها جارحا.. فهل لنا أن نرى!؟ كما يقول الشاعر أمل دنقل: هي أشياء لا تشترى.