مثلما اكتسبت قصائد وأغنيات شاعر العامية صلاح جاهين «0391-6891» أهميتها من صدقها وعفويتها وقدرتها على تجاوز الزمن الذي كتبت فيه، فإن الكثير من رسومه الكاريكاتيرية يبدو متجددا كأنه رسم ليسخر من قضايا حالية ويسلط ضوءا فنيا ساخرا على مفارقات سياسية واجتماعية. ففي رسم يعبر عن اجتراء التلاميذ على مدرسين ممن يتنازلون عن كبريائهم العلمي ودورهم التربوي طمعا في أموال ينالونها مقابل الدروس الخاصة التي يراها كثيرون أنها لا تليق بكرامة المدرس، يرسم جاهين تلميذا يفتح باب البيت لزميله وهو يشير إلى رجل يعاقب برفع يديه لأعلى بمحاذاة الجدار قائلا: ده المدرس الخصوصي بتاعي.. أصله جه متأخر. وفي رسم آخر تسقط دموع مدرس كبير السن وهو يشير إلى طفل يضع يديه في وسطه باستعلاء في فناء المدرسة ويقول المدرس شاكيا لشخص أمامه «والله العظيم ضربني من غير ذنب». وينتقد جاهين «نظام الطبقات» حيث يرسم شخصا متواضعا ينحني وهو يقدم وردة لحبيبته التي تقيم في قبو أدنى من مستوى الأرض في حين يقف شاب ثري فوق ظهر الشاب المنحني ويقدم باقة ورد لحبيبته الواقفة في نافذة أعلى. وفي رسم آخر يتناول رجل بدين غداءه، والمائدة التي يجلس أمامها وحده عامرة بأنواع اللحوم والشراب ويمر فقير وابنه وينظران إليه بحسرة وكتب أسفل الرسم «فعل فاضح في الطريق العام». وجاهين ظاهرة إبداعية كما وصفه معاصروه، وكتب عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش «1941-2008»: أنه واحد من معالم مصر يدل عليها وتدل عليه. نايات البعيد، وشقاء الأزقة، ودفوف الأعياد. سخرية لا تجرح وقلب يسير على قدمين.. جاهين يجلس على ضفة النيل تمثالا من ضوء يعجن أسطورته من اليومي ولا يتوقف عن الضحك إلا لينكسر. يوزع نفسه في نفوس كثيرة وينتشر في كل فن ليعثر على الشعر في اللاشعر. صلاح جاهين يأكل نفسه وينمو في كل ظاهرة، ينمو لينفجر. وأبدع جاهين، في أكثر من فن بما في ذلك التمثيل وهو مؤلف قصيدة «والله زمان يا سلاحي» التي لحنها كمال الطويل وغنتها أم كلثوم وكانت النشيد الوطني لمصر منذ عام 1956الذي شهد العدوان الثلاثي الإسرائيلي البريطاني الفرنسي على البلاد حتى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية 1979. وصدرت «الأعمال الكاريكاتيرية» لجاهين الأسبوع الجاري في مجلدين يقعان في 790 صفحة كبيرة القطع عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالتعاون مع مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي والجمعية المصرية للكاريكاتير وصمم الغلاف الفنان المصري أحمد اللباد. وتحت عنوان (إعادة قراءة تاريخ مصر) كتب الناقد المصري أحمد مجاهد رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب مقدمة عن مكانة جاهين في مسيرة فن الكاريكاتير ودور هذا الفن في قياس نبض المجتمع والرؤية الناقدة وهي «فنية منحازة للتاريخ». وحمل المجلد الأول مقدمة لمصمم الكتب التشكيلي المصري محيي الدين اللباد «1940-2010» سجل فيها أن جاهين بداية من عام 1956 فاجأ قراء مجلة «روز اليوسف» بكاريكاتير جديد مختلف صادم مدهش ومبهج واكتشفت الأعين المتعطشة للجديد سياقا محكما يربط هذا العدد الكبير من الرسوم.. كان وراء هذه الرسوم عقل مثقف شديد الوعي بالمجتمع مضيفا: أن رسوم جاهين ارتبطت بأماكن يعرفها القراء ويألفونها مثل مكاتب موظفي الحكومة وعيادات الأطباء والمدارس والأسواق والمقاهي. وتبدأ الرسوم بفصل عنوانه (قهوة النشاط) وسخر فيه جاهين من الكسالى الذين يحترفون النوم أو لعب النرد في المقهى ولكن رسما منها جاء خادعا في ظاهرة حيث يهرول أربعة رجال كأنهم في حالة نشاط ولكن أحد رواد (قهوة النشاط) يطمئن صاحبه قائلا: رياضة ايه يا بيه.. دول لازم متأخرين على ميعاد القهوة بتاعتهم وعايزين يلحقوا. وفي قسم خاص بالحيوانات يرسم جاهين رجلا يختال وهو يجر كلبا متذمرا ويعلق «ايه العنطزة دي.. احنا وصلنا القمر قبلكم» في إشارة إلى الكلبة «لايكا» أول كائن حي يصل عام 1957 إلى القمر قبل الانسان. كما يرسم شبلا يبكي وهو يشكو لأمه واصفا أباه الأسد بأنه «متوحش يا ماما. تصوري بياكل اللحمة نية». ولا يفوت جاهين أن يمارس لعبة إبدال الحروف والكلمات فيرسم مذيعا يقدم أغنية قائلا: استمعتم إلى أغنية «م المرسي لسوق الحميدية» كلمات موسكي جميل عزيز، وفي التعليق مداعبة لكاتب الأغاني المصري الشهير مرسي جميل عزيز مؤلف أغنية «م الموسكي لسوق الحميدية» التي جمع فيها بين اثنين من أشهر الأسواق في القاهرة ودمشق ولحن الأغنية فريد الأطرش وغنتها صباح بمناسبة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958. وأصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب في الآونة الأخيرة الأعمال الكاملة لجاهين في سبعة أجزاء هي «الدواوين الشعرية» و«الفوزاير» التي أذاعها التلفزيون المصري في شهر رمضان بداية من عام 1970 و(هو وهي) وهو سيناريو مسلسل تلفزيوني قام ببطولته أحمد زكي وسعاد حسني و(منوعات غنائية) و(أعمال مسرحية) و(مسرح العرائس) ويضم ستة أعمال أشهرها (الليلة الكبيرة) و(مقالات ساخرة)، وصدرت الأعمال الكاملة بمقدمات للشاعر بهاء جاهين.