لم يعد الركض خلف أصحاب الاضطرابات العقلية والنفسية أمرا مألوفا كما في السابق، بل تحول الأمر في هذا التوقيت إلى استنكار وتساؤل: (من لهؤلاء .. وكيف يعيشون؟). منصور فتيني من سكان حي السبيل يتحدث عن معاناة أصحاب تلك الحالات، حيث أن الكثير من المصابين بتلك الأمراض يتجولون في الحي ويأكلون من بقايا السكان، يفترشون الشوارع في الليل وينامون بين الحيوانات وفي المنازل الخربة، والبعض منهم يستيقظ لصلاة الفجر ويؤديها مع المصلين، وبعضهم يمتهن التسول، وهناك من يطرق عليك باب منزلك طالبا لقمة يسد بها جوعه أو شربة ماء. وكانت في السابق امرأة تحمل طفلا، تأتي لحينا، والطفل لا يعاني من شيء، ويتعاطف معها سكان الحي، يطعمونها ويكسونها وطفلها، وعندما كنا نسألها عن اسمها وولدها ومن أين جاءت لاتجيب، فهي لاتسمع ولا تتكلم، ومصابة بالجنون، ولكنها تحتفظ بحنان الأم حيث لايفارق الطفل أحضانها. تذهب وتأتي بين فترة وأخرى حتى غابت عن الأنظار، فالبعض يقول تم القبض عليها، والبعض الآخر يقول أنها ماتت، وهناك من يقول بأن فاعل خير تكفل بعلاجها وسكنها واحتواء طفلها. وتساءل فتيني: من لهؤلاء وكيف يتركون في الشوارع هائمون؟!. على الجانب الآخر يقول علي الحكمي بأن زميلا له في الدراسة، وكان من الأطفال المهذبين، كان فقيرا جدا، وليس لديه ما يسد به جوعه في الفسحة المدرسية، مرت الأيام وقبل فترة بسيطة صادفته في سوق البلد يهيم مع جنونه، يتجول هنا وهناك، رث الثياب أشعث الشعر، شاحب اللون، تعب السنين أرهق جسده رغم أنه في العقد الثاني من العمر، وأضاف: حاولت التقرب منه والتحدث إليه إلا أنه شعر بالذعر، سألته هل عرفتني، أنا زميلك علي، لم يجب، وفر هاربا وهو يتلفت للخلف ويمينا وشمالا. وأضاف: لا تكاد تمعن النظر في أحدهم إلا وتجد آثاراً لمعاناتهم، وتعب السنوات، فهذا مبتور أصبعه والآخر مضروبة قدمه وآثار الجروح مازالت عالقة، والخوف يسيطر عليهم. صحيح أن وعي الأهالي في الفترة الأخيرة زاد عما كان في السابق، فأصبح التعامل مع أصحاب الحالات الخاصة مختلف نوعا ما، فلم تعد ملاحقة المرضى في الشوارع ورمي التعليقات موجودا بشكل كبير كما كان يفعل الأطفال قديما، وبالتأكيد فإن تربية الآباء والأمهات وتعليم الأطفال بأن أصحاب تلك الحالات ماهم إلا مرضى يعانون من مشاكل نفسية ولأسباب معينة، تزيد من فهم الطفل وتجعله لايتعامل معهم بطريقة سيئة، إلا أن أصحاب تلك الحالات يحتاجون للفتة أكبر واهتمام مختلف، بدلا من تجولهم في الشوارع ونومهم في المنازل الخربة وأكلهم من حاوية النفايات. ومن ناحية أخرى يقول زياد عبده حسن، أن أصحاب تلك الحالات يعانون مشاكل نفسية حادة، والانتباه من تصرفاتهم أمر مطلوب، فأغلبهم لايعي مايفعل، ويغضبون سريعا ويشعرون أن المجتمع يرفضهم، ولذلك الحذر منهم واجب. ودعا زياد الجهات المختصة بالاهتمام بأصحاب تلك الحالات واحتوائهم والعمل على تأهيلهم ومعالجتهم في المراكز المتخصصة التي تؤمن لهم حياة كريمة. فالذي يعتقد بأن تجول (المجانين) في الشوارع بهذا الشكل أمر عادي فهو مخطئ جدا، لما يشكل بعضهم من خطر على الأهالي والممتلكات. وأضاف: لم نشاهد الدوريات تقبض على المجانين الهائمين إلا بعد الشكوى ضدهم، وعادة الأهالي يشعرون بالحزن على أصحاب تلك الحالات والشفقة مما يمنعهم من الابلاغ عنهم. وعند تحدثنا مع الدوريات الأمنية وسؤالهم لماذا يهيم هؤلاء في الشوارع يقولون بأنهم لم يتلقو شكوى ضدهم أو أن أحدا تضرر منهم. إبراهيم الموسى، تحدث ل "عكاظ" عن الأماكن التي يتواجد فيها بكثرة أصحاب حالات الجنون والاضطرابات النفسية فقال: تجدهم تحت جسر الستين وعلى امتداده ينامون ويسكنون يأكلون ويشربون، يعطف عليهم المارة ويتكفل بأكلهم بعض فاعلو الخير، مضيفا: أصحاب تلك الحالات أحوج مايكون للعناية والرعاية، بالتأكيد يحتاجون للمأكل والمسكن، والرعاية الصحية. واستطرد قائلا: يموت أغلب هؤلاء في المنازل الخربة حيث ينامون ويقضون حاجاتهم، من غير علم أحد، يموتون ونعرف ذلك من روائح جثثهم وبعد أن نهشت الحيوانات الضالة أجسادهم. من جانبه أوضح المتحدث الإعلامي في شرطة جدة بأن التعامل مع المجانين أو المتجولين الهائمين في الشوارع والذين يشكل بعضهم خطرا على المجتمع، فإنه يتم التعامل مع كل شخص حسب حالته، ونطالب الأهالي عند الارتياب من تصرفات أي شخص أو الانزعاج تبليغ الدوريات الأمنية، وبدورنا نقوم بتحويل المريض للهلال الأحمر ومن ثم تحويله لمستشفى الصحة النفسية المتخصص لتقييم الحالة، والتعامل معها وعلاجها. وأوضح مصدر في الشؤون الاجتماعية أن هناك جهة متخصصة للعناية بمثل تلك الحالات ويطلق عليها دور الإخاء تتبع لوزارة الصحة، لما لدور الصحة من مهام أساسية في علاجهم واحتوائهم. وأما عن دور وزارة الشؤون الاجتماعية فهو يتمركز على المساعدات العينية والمادية والضمان، لذلك تعتبر وزارة الصحة متمثلة بمركز الصحة النفسية في مستشفى الملك عبدالعزيز في جدة هي المسؤولة عن علاجهم وتهيئتهم للاندماج في المجتمع . من جانبه أكد مدير مستشفى الصحة النفسية في جدة الدكتور سهيل خان أن المجانين وأصحاب الحالات النفسية القوية يشكلون خطرا على المجتمع وأسرهم وأنفسهم، فنسبة محاولاتهم للانتحار كبيرة . ويوضح الدكتور سهيل الفرق بين المريض النفسي وبين الانفصام الشخصي بأن الانفصام الشخصي تسمية خاطئة، واضطراب الفصام العقلي هو التسمية الصحيحة، و أنه أحد أنواع الاضطرابات الذهنية التي قد يفقد فيها المريض البصيرة تجاه مرضه وتحدث له أعراض مثل الهلاوس السمعية والبصرية والاضطراب السلوكي والضلالات الفكرية، وتظهر على المريض آثار بدنية كهزالة جسمه وعدم الاهتمام بمظهره والابتعاد عن التواصل مع الناس وفقدان المهارات المكتسبة وغير ذلك، أما المريض النفسي فهو تسمية عامة لأي مصاب باضطراب نفسي بشتى التشخيصات المعتمدة طبيا. وشدد الدكتور سهيل بأن مستشفى الصحة النفسية تحارب المصطلح المتداول (مجانين) لما تحمله الكلمة من معان سلبية قد تؤثر على عائلته وذويه وعلى من تطلق عليه، وبين الدكتور سهيل بأن هذه الفئة منتشرة في كل دول العالم حتى المتقدمة طبيا ، وحسب الدراسات التي أجريت على هذه الفئة فإن الغالبية العظمى منهم يعانون من اضطراب الفصام العقلي غير المنتظم والمزمن وبدورنا نقدم لهم ما تحتاجه حالاتهم من العلاجات العقاقيرية والمتمثلة في مضادات الذهان وخلافها وإعادة تأهيل السلوك من خلال برامج التأهيل والعلاج بالعمل والمتوفة لدينا.وعن البرامج التي تقدم لعلاجهم، يقول الدكتور سهيل: بعد إجراء الفحوصات الطبية الأولية وعمل الاختبارات والمقاييس النفسية اللازمة يتم التوصل إلى التشخيص التفصيلي للحالة كل على حدة، من الناحية النفسية والعضوية، وعليه يتم وضع الخطط العلاجية على حسب كل حالة والتي تحتوي على مراحل عديدة قصيرة وطويلة المدى تشمل العلاج العقاقيري والسلوكي والتأهيلي. نريد التعاون يوضح الدكتور سهيل خان مدير مستشفى الصحة النفسية دور بعض الجهات المتعاونة معهم، حيث يقول: تقتضي حالات هذه الفئة تعاون قطاعات حكومية مختلفة منها وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الداخلية ممثلة في الشرطة والجوازات وكذلك إدارة الأحوال المدنية وغيرها حسب مقتضى كل حالة.