يهيم بعض المرضى النفسيين في الشوارع، والبعض الآخر تودعه أسرته أحد مراكز التأهيل أو إحدى المصحات النفسية، وهناك من تفضل أسرته تكبيله وتقييده وحبسه في غرف موصدة، فيما تتكتم بعض الأسر على مرضاها؛ بعزلهم خشية من كشفها للمجتمع، فيما يسيطر (العيب الاجتماعي) على بعض الأسر، الأمر الذي قد يحول مريضهم النفسي إلى مختل عقليا في أغلب الأحيان، والنماذج كثيرة ولكن ما يجمعها هو افتقاد الاهتمام في من حولهم في أغلب الأحوال، ما يخفف من معاناتهم ويساعدهم على تجاوز حالتهم الراهنة. 16 عاما مع المرض النفسي منذ 16 عاما، اعتاد سكان وبائعو البقالات في أحد أحياء جنوبي جدة، رؤية الشاب محمد سلطان وهو يمارس هوايته اليومية في الركض، دون أن تكف يداه عن حك جسده، حتى أنه لا ينظر إلى أحد في أغلب خطواته. وللوهلة الأولى، تلحظ أن تصرفات الشاب ليست طبيعية، وأنه مريض نفسي يحتاج إلى رعاية، لا سيما أن المدة الطويلة التي عاناها مع المرض نتيجة انتكاسة مفاجئة، كانت الصدمة الحقيقية في حياة والدته المسنة التي بدا على ملامحها الإشفاق على حال ابنها الوحيد كمن تريد أن تفضفض عما بداخلها. تروي الأم معاناتها مع ابنها قائلة: منذ 16 عاما وابني يعاني من المرض، ولمست ذلك من انطوائه والتزامه الصمت، إلى أن فقد عمله بسبب الغياب. وأضافت: للأسف تقصيري في عرضه على الأطباء، ظنا مني أن الأمر مجرد عارض بسيط سوف يزول مع الأيام، زاد من معاناته غير أنه مع مرور الأيام ساءت حالته الصحية إلى أن وصل به الأمر في الآونة الأخيرة لأكل الشجر، لكنه لا يؤذي أحدا، يقضي يومه في الجلوس أمام المحال القريبة من منزلنا ثم يعود للأكل أو النوم وهكذا، هي حياته!! بعدها -تقول أم محمد- نصحنا بعض الجيران بالذهاب به إلى مستشفى الصحة النفسية للنظر في وضعه، فأخذت بنصيحتهم وعرضته على الأطباء ثم أعطي العلاج، حينها طلبت منهم أن يدخلوه المستشفى للتنويم، لكنهم اعتذروا بحجة عدم وجود سرير، وطلبوا المراجعة خلال مواعيد حددوها، ثم عدت مع ابني الوحيد إلى البيت واستمر على العلاج، ولكن دون أي تحسن في حالته، حتى أنهم في مراجعة قبل أيام أعطوه علاجا عبارة عن حقن. وتتابع: أنا امرأة مسنة وليس باستطاعتي رعاية نفسي، فكيف برعاية وخدمة مريض، كنت أتمنى أن يجد ابني رعاية صحية ومتابعة خلال تنويمه داخل مستشفى الصحة النفسية، وأخشى أن تزداد حالته سوءا وأفقد السيطرة عليه فيلحق الضرر بالآخرين فيما لو تفاقمت حالته. مريض يمشط الشوارع في منطقة البلد بجوار محطة النقل الجماعي، بدا ناصر في ثياب رثة وجسد متعب ووجه شاحب يعكس مدى معاناته مع المرض النفسي. ينام تحت الجسور وبين الشاحنات وفي مواقف السيارات يغطيه ثوبه البالي الممزق ولا يبالي بأحد، حيث أكد من يرونه أن له فترة طويلة يعيش في هذه المنطقة، ولا يتحدث مع أحد، لكن ما إن يقترب منه أحد حتى يصرخ بصوت عال، وربما قد يؤذيه حتى أنه من شدة غضبه يضع يده على رأسه بقوة، ثم يخرج سيجارة من جيبه كونه يدخن بشراهة. وعندما يستيقظ من النوم ويشعر بالجوع يترك مكانه مفزوعا، يبدأ رحلته اليومية في السير حافيا يجوب الشارع ذهابا وإيابا، هائما على وجهه دون أن يعرف أين يتجه، لكنه اعتاد المرور على بعض المحال التي عرفته من خلال ثيابه الرثة وهندامه المتسخ، فلا يتردد البعض في مساعدته وتقديم الأكل والشراب له أعيدوا إلي أموالي أما الرجل الثري، الذي أطلق على نفسه هذا الاسم فهو الآخر اعتاد المشي في الطرقات القريبة من نقطة العودة والجلوس على أحد الأرصفة أو المقاهي في وسط جدة، حيث لا يكف عن الهذيان مرددا «أعيدوا فلوسي، لقد سرقها الأنذال!! وأصبحت على الحديدة»،حتى إنه يدخل الرعب في نفوس المارة والمتسوقين في المنطقة، وبعد محاولات الحديث معه، رد صامتا، وبنظرات منطفئة، بعدها انفعل، وقال: اسمي الرجل الثري أين هي فلوسي، أعيدوها لي، ثم دخل في نوبة انفعال شديدة. هائم في الطرقات وفي أحد الطرقات، كانت معاناة رجل لم يتجاوز عمره ال40 عاما في أحد أحياء جنوبي جدة، بدا متعبا يقف ثم يسقط ملتحفا بلحاف متسخ وممزق، لم يجد من يأخذ بيده لإنقاذه من حياة قاسية يمر بها كثيرون غيره، من فقدوا عقولهم، وأصبحت أسرهم تبحث عن بصيص أمل لعلاجهم في المصحات النفسية، وعندما عجزوا تركوهم هائمين في الشوارع ليواجهوا مصيرهم المحتوم. احمد ( 35 عاما) مقيم في قرية الزرقاء في محافظة ضمد، أصابه مرض نفسي وهو في الخامسة من عمره، وتحول إلى شخص عدواني، ما أجبر عمه إلى تكبيله، وتخصيص غرفة صغيرة معزولة بها نافذة واحدة لمناولته المأكل والمشرب. ويصف عم المريض معاناة ابن أخيه» وضعته في غرفة كونه انفعاليا في تصرفاته، لدرجة أنه يحبذ قضاء وقته عاريا، ويمزق أي رداء نلبسه إياه»، مضيفا لقد راجعت به عدة مستشفيات دون فائدة، سوى دواء أعتدت على توفيره بالرغم من سوء حالتي المادية 630 مريضا يعانون الفراق في مستشفى الصحة النفسية في الطائف، هناك 300 مرفوض من أصل 630 مريضا يعانون من غياب أسرهم وجحود المجتمع، لكنهم وجدوا رعاية العاملين في المستشفى. ومن تلك الحالات، مريض يعاني من 48 عاما من القطيعة يعيشها في المستشفى دون أن يزوره أحد من أفراد عائلته أو أسرته القريبة أو حتى السؤال عنه في الأعياد والمناسبات، ترك ليعيش وحيدا مع همومه وأحزانه داخل المستشفى، لا يعرف ما يدور في الخارج، ولا يستقبل أحدا عدا الأطباء والممرضين والعاملين الذين يلقون علية التحية كل صباح. وكشفت الإحصائيات أن المرضى يتم تحويلهم من مناطق المملكة إلى هذا المستشفى، ما يشكل عبئا كبيرا عليه في تقديم الخدمات؛ فالمنطقة الغربية تتصدر عدد المرضى النفسيين المنومين في المستشفى، حيث يبلغ عددهم 97 مريضا، بينما تأتي منطقة الرياض في المركز الثاني ب69 مريضا أقدمهم شخص أدخل المستشفى في عام 1382ه، فيما تأتي منطقة القصيم ب13 مريضا أقدمهم يعيش من 32 عاما دون زيارة، والمنطقة الجنوبية ب13مريضا أقدمهم قضى 36 عاما، بينما الشرقية ب10مرضى أقدمهم يعيش من 28 عاما، والباحة مريض واحد من 28 عاما. حقوق الإنسان: تأهيل الأسر في التعامل مع المرضى النفسيين إلى ذلك، يعلق المشرف على هيئة حقوق الإنسان في منطقة مكةالمكرمة الدكتور حسين الشريف: قبل أعوام زرنا مستشفى الصحة النفسية في الطائف، ووجدنا حالات تعيش داخله منذ أعوام، رغم أن أحوالها الصحية تحسنت، ويفترض أن تغادر المستشفى وتعطي فرصة لغيرها من المرضى، لكن أهلها يرفضون تسلمها متعذرين بعدم قدرتهم على متابعة أحوال مريضهم ماديا ومهنيا، وبعضهم أوجد لنفسه مبررا اجتماعيا، وبعض الحالات لم يكن لها قريب أو بعيد، وتم الرفع بذلك للجهات المختصة، ولمسنا تحركهم لمعالجة الأمر، مع أهمية أن تؤهل الصحة والشؤون الاجتماعية أهل المرضى، في كيفية التعامل معهم، وأن تدعمهم ماديا ومعنويا، وأن تعلن كل جهة مسؤوليتها تجاه المريض وتجاه أسرته ومتابعة أحواله، وإذا كانت إمكانات إحدى الوزارتين غير قادرة على التنفيذ، عليها أن تعلن ذلك وتطالب بالدعم. مرضى الفصام المزمن من جهته، أوضح استشاري الطب النفسي، مدير الشؤون الفنية والمدير الطبي في مستشفى الصحة النفسية في جدة الدكتور سهيل عبد الحميد خان، أن الخدمات الصحية سجلت تطورا كبيرا خلال الأعوام الأخيرة، خصوصا رعاية المرضى النفسيين، مشيرا إلى أن الهائمين في الشوارع وعلى الأرصفة والمشردين، هم غالبا يصنفون بمرضى (الفصام المزمن) وحالتهم الصحية المتدهورة جعلتهم هكذا نتيجة عدم تلقيهم للعلاج في الوقت المناسب، وهم يشكلون نسبة 1 في المائة من أي مجتمع، وبالتالي اذا أخذنا جدة التي يسكن فيها حوالى 3 ملايين تقريبا، فإن 1 في المائة من كل 30 ألف مريض هم مرضى فصام، وإذا قلنا إن 1 في المائة على الأقل من 30 ألف مريض نفسي يحتاجون إلى التنويم، فإن هذه النسبة تفوق الطاقة الاستيعابية للمستشفى وهي 120 سريرا. وأضاف الدكتور سهيل، إن المستشفى يستقبل يوميا ما بين 100 إلى 120 مريضا، وهي حالات إما محولة عن طريق الجهات الرسمية، أو من أهل المريض، أو يأتي المريض بنفسه، ومن ثم يتم التحقق من هويته، وفتح ملف للمريض، وعرضه على اختصاصي لدراسة وتشخيص حالته، بعد ذلك يتم عمل التحاليل اللازمة وتقييم حالته بشكل مبدئي، فإذا استدعى تنويمه فعلى الفور يتم ذلك، أما إذا كانت حالته تستدعي غير ذلك، فيتم إعطاؤه العلاج اللازم. وبين الدكتور سهيل أن مستشفى الصحة النفسية يواجه -لا سيما في الفترة الأخيرة- ضغطا كبيرا في قسم التنويم، وعدم تجاوب ذوي المرضى المنومين الذين تحسنت حالتهم الصحية، واستدعى خروجهم، فحين يتم الاتصال بأحد ذوي المرضى نكتشف أنه تم تغيير أرقام الهواتف، وبالتالي توجد حالات متكدسة على حساب مرضى آخرين خارج المستشفى، موضحا في هذا الصدد أن النظام لا يسمح بدخول أي مريض لقسم التنويم إلا عند توفر سرير، لافتا إلى أن المستشفى قد أطلق برنامج لرعاية المرضى في منازلهم بعد خروجهم من المستشفى، ومتابعة حالتهم الصحية والاطلاع على كيفية تعامل الأهل مع المريض، محذرا في الوقت نفسه من مغبة التخلي عن المريض النفسي. غياب الوعي من جانبه، أوضح مدير مركز التأهيل الشامل في جدة حسين مغربل، أن الحالات المصابة بتخلف عقلي أو جسدي أو كليهما معا، لا بد أن تعرض على المستشفيات النفسية المتخصصة، للكشف عليها ومعالجتها إذا كانت تعاني من أي مرض نفسي، ولا يتم استقبالها إلا بعد أن تشفى تماما، مرجعا أسبابها إلى طلاق الوالدين وتشتت الأسرة، وغياب الوعي من أبرز الدوافع التي تؤدي الى تقييد المريض أو عزله في غرفة وحيدا، وعدم الاهتمام به، إضافة لدوافع أخرى تتمثل في الخوف على المريض من الخروج والضياع والذهاب الى وجهة غير معلومة، مشددا أنه مهما كانت الأسباب لا بد من عرضه على الأطباء النفسيين المختصين، مؤكدا أن هذا هو الحل السليم حتى لا تتفاقم حالته النفسية ويصعب علاجها بعد ذلك. وصمة خزي وعار يؤكد استشاري العلاج النفسي في مستشفى النور التخصصي في مكةالمكرمة الدكتور سامي بن أحمد الحميدة، أنه رغم تماثل الكثير من المرضى النفسيين للشفاء واختفاء الأعراض منهم، إلا أن من حولهم يستمرون بالتعامل معهم على أنهم أصبحوا كالملوثين وأنه يستحسن الابتعاد عنهم. وأضاف الحميدة: إن ظاهرة الوصمة هذه شائعة بنسب متفاوتة في كل بلاد العالم، إلا أنها تأخذ أبعادا غيبية في مجتمعاتنا، لما يربطه البعض بين المرض النفسي وبين السحر والجن، وما يحتمله هذا من غموض وردود أفعال متنوعة، متجاهلين حقيقة أن المرض النفسي مثله مثل بقية الأمراض الأخرى له مسبباته العضوية والبيولوجية والتشريحية والاجتماعية والتربوية، وأنه وبفعل الأدوية الحديثة أصبحت الأمراض النفسية في معظمها خاضعة للسيطرة وذات مآل جيدة. مشيرا إلى أن الوصمة لا تقتصر على المريض النفسي فقط، بل تتعداه إلى جميع المتعاملين معه، وليس نادرا أن يتم التهكم على الطبيب النفسي أو الاختصاصي النفسي واتهامه بأنه يصيبه ما يصيب مرضاه، والاعتقاد سائد لدى الناس بأن الطبيب النفسي لا بد أن به لوثة مثل مرضاه بحكم تعامله معهم. إحباط وانتحار في سياق ذلك، يشير الاختصاصي النفسي في المركز الطبي في جدة أحمد الحربي، إلى أن المرضى النفسيين في أي مجتمع يمثلون بحسب دراسات منظمة الصحة العالمية، نسبة تصل إلى أكثر من 20 في المائة، وهذه نسبة عالية بكل المقاييس الصحية نتيجة لعوامل ومسببات خارجية كثيرة مثل تسارع الحياة والضغوط النفسية والاجتماعية والتفكك الأسري والاجتماعي وغيرها. وأضاف: إن هذه النسبة العالية تدعونا لتغيير نظرتنا للمريض النفسي ورفع مستوى الوعي الثقافي والصحي، فعندما يهمل المريض نفسه ولا يعرض حالته على الطبيب النفسي عند تعرضه لمشكلة نفسية تحيط به وتعيق تفكيره وتفاعله مع مجتمعه، قد يؤدي به ذلك إلى الإحباط والانتحار أو يكون خطرا على المحيطين به، إذا كان يعاني من بعض الأمراض العقلية الذهانية الخطيرة، التي قد يصاحبها عدوانية عنيفة أحيانا وعدم استبصار بالأمور المحيطة به. أسباب ودوافع وأشار الدكتور جلال مقصود خوجة مدير مستشفى الصحة النفسية في الطائف، إلى أن المخاطبات والمكالمات لأسر بعض المرضى لم تشفع لإنهاء الجحود الذي يواجهه المرضى النفسيون في المستشفى، والذي يعتبر من ضمن خطط العلاج دمج المريض النفسي في المجتمع، ولكن لم نجد تلك المساعدة من الأسر لإخراج أبنائهم أو آبائهم من الحالات النفسية التي يعانونها. ويتذكر خوجة أن مريضا كان يتوجب على المستشفى إجراء عملية جراحية وتمت مخاطبته بالحضور للتوقيع على العملية، لكن هذا المريض اكتفى بطلب إرسال فاكس بالموافقة. ويشير حميد القرشي مساعد مدير مستشفى الصحة النفسية في الطائف، إلى أن المجتمع يتحمل المسؤولية في بقاء هؤلاء المرضى في المستشفى لأعوام، وهذا لن ينفع في العلاج، بل يزيدهم معاناة، مؤكدا أن غياب الأسرة عن زيارة المرضى يشكل معاناة. من جهته، أوضح الاختصاصي الاجتماعي عبد الله المطيري أن الفئات المعرضة للمشاكل النفسية مثل الاكتئاب والشخصية العدوانية هم من سكان الأرصفة والشوارع، مشيرا إلى أن الحالات التي تسكن الشوارع وتحت الجسور تختلف ظروفها من حالة إلى أخرى، فقد تجد شخصا يعاني من ظروف قاسية قد تكون أسرية أو بفقد عزيز لديه، وبالتالي أصيب بصدمة عاطفية ولا يجد حلا لمشكلاته سوى اللجوء إلى الرصيف، كما أن المرضى النفسيين يلجأون إلى الرصيف تبعا لمرضهم، كما أن هناك من يلجأ إلى الشارع لاستدرار عطف المارة ولفت الانتباه لحالته وإيجاد حل لها. ويضيف المطيري: إن أفضل الحلول لاحتواء مثل هذه الحالات هو تغيير نظرة المجتمع تجاهها وحل المشاكل الأساسية التي تدفع الإنسان للهروب، وذلك عن طريق التكافل الاجتماعي والتوعية الدينية واكتشاف المشاكل النفسية في حينها، إذ تقع المسؤولية الكبرى على الأسرة في المقام الأول باكتشاف تصرفات أحد أبنائها وعرضه على المختصين وعلاجه مبكرا قبل فوات الأوان، فضلا عن التوعية الصحية المبكرة وإدراج الصحة النفسية ضمن برامج الرعاية الصحية الأولية.