قبل أذان الفجر البعيد.. الموغل في زمهرير الشتاء القارس، وقبل منبه الساعة كان التثاقل، والتباطؤ، والسهاد، وعيون أضناها الآمال المنهكة، والمجهضة من مغبة الفجر، والسفر المعتاد، وعجاج الباص، وأصوات المؤذنين تغالط محركات الباص المزحوم بمعلمات الوادي السحيق الموصل للقرى التهامية من أعالي منحدرات السراة، وقبل الوصول بكيلومترات كان الباص يحاول أن يداري معلماته، خوفا من غربة طفولة تسأل: أين أمي، خوفا من دمعات طالبة الأولى الابتدائي، خوفا من قتل حلم زوجين بميلاد طفل اسمه أحمد، خوفا من قلب أم ترقد في المستشفى، خوفا من زوج كان قد اشترى عقدا كي يهديه زوجته في نفس تاريخه زواجهما، خوفا من أب مسن قضى عمره في تربية ابنته، خوفا من أحلام ٍتراودهن سنين.. في نقل خارجي يعيدهن لمنازلهن وأولادهن. ولكن.. حدث ما كن يخشينه، ووقعت الفجيعة، المخيفة، والمفزعة في صقيع البرد، ونزعت أرواحهن.. وجوالاتهن تصرخ بمسميات بناتهن، وأولادهن، وأزواجهن.. تصرخ في فجر الغربة، والرحيل عن الدنيا.. بعد قبلات الوداع الحارة على وجنات أطفالهن الذين يغطون في سبات شتوي تحت البطانيات الصوف.. وما زالت جوالاتهن تصرخ في أجساد جاثمة، وأرواح سافرت لبارئها، تصرخ في معاناة تلك الطرق التي تلطخت بدماء المعلمات، وأهلكت الحرث والعلم والنسل؟! وما هي إلا إعادة لمسلسل ضحايا التعليم من المعلمات، وقد نكأت الذاكرة المتخمة بالأحزان، والمنفطرة بالذكريات المؤلمة.. كي تعيدنا باكين، مكلومين جاثمين نجر الحسرة، وعظيم الفقد خلف جثمان معلمات الوادي السحيق، وقد وئدت أحلامهن في ثراهن الأخير، ووارينا وجوههن المملؤة بالدماء، والعفة، والطهارة الثرى، وأودعنا قلوبنا معهن، وسط نوبات من البكاء، وحشرجات الفراق.. قضية تعتصرنا ألما؟! كي تعيدنا للمربع المهترئ القديم «ضحايا المعلمات»، ومشروع نقل الوزارة المزعوم الذي ظل نزيفا على ورق.. بينما تنزف طرقنا بدماء المعلمات البريئات؟! رحم الله المعلمات، وأسكنهن فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.. ضبابيات أخيرة: لعل أقل ما تقدمه وزارة التربية والتعليم لأبناء المعلمات، وذويهن أن تستمر رواتبهن كواجب عزاء، وكونه واجبا إنسانيا عظيما.. فلربما تكون تلك المعلمة الراحلة هي التي تعول أسرتها بعد الله سبحانه.