لقد تعلمت جدة من قانون المد والجزر على شاطئها أن تكون دائما في انتظار الفرح مع من يأتي إليها سواء كان حاجا، تاجرا، رحالة، عربا، عجما، وكذلك من يأتيها من الدبلوماسيين الذين عملوا في سفاراتهم سواء كانو سفراء أو قناصل أو حتى موظفي السفارات الذين كانو يتغلغلون في المجتمع لدرجة أنهم كانوا يرتادون المقاهي و(العزل). من هنا كان تأثيرهم واضحا سواء كان سلبا أو إيجابا، ولعل تأثير الجالية الأوروبية خصوصا الطلاينة واليونايين القبارصة وكان أشهرهم الخواجة ينى. ولكي أكون دقيقا فقد تأثر المجتمع الجداوي بالجاليات العربية والآسيوية منذ الأزل من خلال كم الحجاج الذين كانوا يفدون إلي جدة ويقيمون بها لفترات طويلة ريثما يتم تفويجهم إلي مكة والمدينة. • سأختار بعضا من ذكريات الأستاذ يحيى حقي مبدع رواية ( قنديل أم هاشم) من كتابه (كناسة الدكان) حينما كان قنصلا عاما في القنصلية المصرية بجدة. • يسترجع الأستاذ حقي ذكرياته في جدة ويقول : (وصفت لك أول مقامي سنة 1929 بجدة ثغر الحجاز، وبها قبر أمنا حواء طوله عشرون مترا على الأقل. • أول حفلة موسيقية حضرتها بجدة، مرت علي سنتان لم يقع فيهما بصري قط على آلة موسيقية، ولم أسمع عزفا من أي نوع كان، أما الغناء فقد كان موجودا إذا كان غير مصحوب بعزف، وغير مستورد، أي لابد من الإلتزام بالغناء الحجازي وهو أشبه بالحداء). • يكمل واصفا المشهد: ( الجميع جالسون في صمت عميق وحين يحس المنشد أنه أشبع سامعيه وأن صدورهم متلهفة على وقفة تتيح لهم التعبير عن طربهم ينهي المحط بنغمة أعلى مقاما تسمع نفثة مدوية كالهدير من مستمعيه تقول الله في مد طويل ثم يعودون إلى الصمت المطبق إلى أن تأتي المحطة التالية. • صدقني، تمنيت أن نقتبس هذا التقليد ليعفينا من الصرخات الفجة التي نقاطع بها غناء أم كلثوم).