في مقال الخميس الفائت تحدثنا عن طبيعة الكتاب الفلسفي وعن مدى صعوبته. أما مقال اليوم فسيكون عن بعض الآليات والطرق التي تذلل بعض الصعوبات أو على الأقل تخفف من حدتها. في بادئ الأمر، عليك أيها القارئ الكريم أن تبدأ بكتب المقدمات الميسرة والتي تندرج بالعادة تحت العناوين التالية: مدخل إلى الفلسفة، تاريخ الفلسفة، مقدمة إلى الفكر الفلسفي،... إلخ. وكتب المداخل والمقدمات قد تكون تأريخا استعراضيا للفكر الفلسفي من اليونان حتى اليوم، أو عرضا لأهم المناقشات الفلسفية، أو سردا للمذاهب الفكرية التي سادت تاريخ الفلسفة، أو أخيرا تأريخا للفلاسفة أنفسهم. وكلها تصب في الغاية ذاتها؛ تقديم الفلسفة إلى القارئ غير المتعمق فيها. ومع قراءة كتب المقدمات ستجد نفسك تنجذب شيئا فشيئا لموضوع أو أكثر من الموضوعات الفلسفية أو لتيار فكري معين، هنا يمكن القول إنك ستلج إلى القراءة المتخصصة التي تحتاج إلى مزيد جهد وتعمق وتركيز. قد تروق لك فلسفة هيجل مثلا، وستجد نفسك تقرأ كل كتاب عنه وكل كتاب له. لكنك ستكتشف أن فلسفة هيجل ليست منعزلة عن غيرها من الفلسفات؛ فهي تقتضي إلماما كبيرا بفلسفات من قبله كأفلاطون وأرسطو وديكارت واسبينوزا وكانط. من أجل هذا فلا تخف من أن يبعدك التخصص في فيلسوف معين عن مملكة الفلسفة، فهي بخلاف العلوم الأخرى لا تتخلى عن ماضيها ولا عن «أصدقائها»! اجعل بجانبك معجما فلسفيا. لا تقرأ المعجم قبل الكتاب الفلسفي، بل اقرأه معه. والمعجم الفلسفي الصحيح هو الذي يؤرخ لكل مصطلح ويذكر ليس تعريفا واحدا له بل تعريفاته المختلفة كما وردت في نصوص الفلاسفة؛ كمعجم لالاند (قاموس المصطلحات الفلسفية) أو جلال الدين سعيد (معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية) أو موسوعة عبدالرحمن بدوي. وما تمتاز به هذه المعاجم أنها تراعي تطور الدلالات المصطلحية بل وتضع شواهد لورود كل مصطلح بمعانيه المتباينة. وينبغي ملاحظة أن معنى المصطلح الفلسفي قد لا يدرك من خلال المعاجم بقدر ما يدرك من خلال مداومة القراءة في النص الفلسفي وهذه أفضل طريقة للفهم: المداومة والصبر على القراءة. على عكس أغلب الكتب الأدبية والعلمية مثلا.. في الفلسفة يفضل أن تقرأ «عن» الفيلسوف قبل أن تقرأ «له»؛ فالفيلسوف بالعادة لا يكتب للقارئ العادي بل للمتخصص والمتتبع للقضايا التي يناقشها. وبرأيي أنه سيكون صعبا إن لم نقل مستحيلا أن تفهم مثلا كتاب «فينومينولوجيا العقل» لهيجل دون أن تعرف الأفكار الأساسية لفلسفة هيجل، وهذا لا يتم إلا بقراءة أكثر من كتاب عنه وعن مؤلفاته. اجعل الأفكار التي تقرأها موضوعا للنقاش بينك وبين أصدقائك المهتمين. حاول أن تتقمص وجهة نظر الفيلسوف وتدافع عن فكرته وكأنك إياه لفترة من الزمن، والأهم من ذلك حاول أن تشرح الفكرة لغيرك فإذا لم تستطع فإنك لم تفهمها جيدا! لذا أعد القراءة. قد تصادفك بعض العبارات أو الأفكار التي تبدو سطحية بل «غبية» في ظاهرها.. وستقول: كيف لمؤرخي الفلسفة الاشتغال على هذه الأفكار العادية أو البسيطة؟! كيف لهم أن يعطوها أكبر من حجمها؟! إذا حدث ذلك فاعرف أيضا أنك لم تفهم الفكرة أو العبارة جيدا.. فارجع واقرأ وناقش لكي تدرك أن تاريخ الفلسفة هو مسرح لأعظم العقول وأنه لا يبقى إلا ما هو جدير بالبقاء. باختصار: ليست هناك أية فكرة تافهة في عالم الفلسفة حتى لو اختلفت معها. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة