الثقافة بمفهومها العام تفي بالضروري من احتياجات الإنسان في تدبير شؤون حياته، ذلك المفهوم الذي يجمع تحت مظلته كل المعارف الإنسانية والعلوم والأعراف والقوانين السائدة والتقاليد، ليست ثقافة بالمعنى المخصوص لها في هذا العصر، إنها ثقافة العام والشائع التي لا تحتاج إلى الشهادات والتخصصات الدقيقة في ضروب معينة من العلوم والفكر والآداب. إنها ثقافة قابلة للتغيير، ثقافة المقاومة والبقاء لكل ما تفرضه الحياة من ظروف.. لقد أخرجنا المواطن من سياق الثقافة التي نريد لها الترقي، وأوقعناه من قياسات المثقف الخاصة والنخبوية، كل ذلك لنحصل على فئة وأقلية سهلة الاختراق والأدلجة، فئة متطرفة في انقلاباتها على ما يطرأ من متغيرات، سريعة التراجع لأن مكاسبها هي لباس الثقافة وليس الثقافة نفسها، كمن يلبس لأن الثوب أعجبه وليس لأنه يستر عورته، فالمثقف سهل التلاشي متى ما كانت ثقافته تعزله عن مجموع الوعي العام للناس، كمصدر ومعلم وموجه، هش يمكن الطعن في امتيازاته لأن نرجسيته تضخمه وتفضح عيوبه. أثق تماما في أن الناس بدأت تكون لنفسها وصاية ورقابة ذاتية، تقيس ثقافتها بثقافة الواقع في الشعوب المجاورة. تتجاوب مع ضمائرها باطراد يولد في عقولها طبيعة العالم المتشكك الباحث عن الحقيقة المتجردة، الناس تتراجع في منح ثقتها لكل من أعلن الوصاية عليها باسم الدين أو الموروث. بدأ الناس يستشعرون حقيقة تلك الصدامات الفكرية بين تيارات مازالت لم تحدد لنفسها طريقا تسلكه ولكنها تستمر في الاختلاف حول نوع وسيلة النقل التي يجب استخدامها في ذلك الطريق المجهول. بدأ الناس يتساءلون عن ذلك المجهول المستحيل الذي يخاف ويخجل المثقفون من الحديث عنه صراحة ويبقون جدلهم في هامش التغيير الممكن لمستقبلنا. المثقف بمفهومه الخاص لم يعد يمثل الثقافة بمفهومها العام. المثقف حالة إقصاء فردية واختيارية في مقابل الثقافة كحالة تآلف جماعية وتلقائية. المثقف حالة حرية لا أعتقد أن هناك إنسانا حرا بما يكفي ليتمثلها.