بعث إلي أحد الأصدقاء من كتاب الصحافة مشروع مقال يريد نشره في إحدى الصحف التي ينشر فيها مقالاته. ناقش الكاتب في مقاله موضوعا عن الجنس.. بصراحة متناهية مدعما بجرأة عالجها برؤية ناقدة غايتها التوعية والإصلاح. يرغب الصديق إطلاعي على المقال، وإبداء رأيي فيما إذا كان المقال صالحا للنشر من عدمه..مذكرا بحرية التعبير، وسمو المقصد. بعثت إليه رسالة قلت فيها: «إن حرية التعبير، كما أن لها حدودا، فإن للجرأة حدودا أيضا..حتى لا تصبح الجرأة طيشا وحمقا، ولا الحرية شططا وتهورا». إن بعض التقاليد التي جرى العرف من آلاف السنين على رسوخها في المجتمع ليس من الهين مواجهتها بمثل جرأتك الحادة، وصراحتك الجادة..كل منهما لا يستقيم مع مسار الحياة ولا يقبله الآخرون. لابد أن يقر في ذهنك أن المجتمع الغربي في سياق حرية الفكر والتعبير يسعى إلى التخلص من العادات في مواطن كثيرة، فلا تستغرب في موطن آخر أن يتمسك أفراده بعادات وتقاليد لا يجرؤ على المساس بها على النحو الذي قد تظنه. لن يكون في مقدور أي إنسان مهما بلغ من الحضارة والرقي أن يشطب، أو على الأقل، ينكر بعض ما ورثه بمجرد أن يعلن عن ذلك شفاهة أو كتابة..خاصة إذا لم يكن الموروث ضارا أو معارضا لدينه ومعتقده، فضلا عن أنه لا يقبل أن يقرأ كل ما يطعن فيما ألفه بالسهولة التي يتخيلها الجريء مثلك..! إن من ينشد الإصلاح والتغيير أو التطوير أو التحسين يمكن أن يتناول القضية التي يجابهها من بعض أطرافها بشيء من الحكمة، والتبصر في نتائج ما يجابهه بصورة لا تثير الاستهجان أو السخط، أو تخلق الفرقة والشقاق، ولا تفضي إلى الاستخفاف بفكرته..فيصغر في عين الآخرين بدلا من الإعجاب والتأييد لما يطرح. إنك يا صديقي وأنت تكتب عن الجنس على المنوال الذي ناقشت عليك أن تتذكر أن في بعض البلدان التي قفزت أشواطا بعيدة في حرية الجنس والتعبير عنه، لم تعالج في أبحاثهم عن الجنس فضائحهم ومثالبهم الجنسية الخفية..رغم إنها بلدان شاع الجنس قانونا بينها، وبلغ انتشاره حد المجون والابتذال..يصافحك سماسرته علانية وأنت في طريقك (يا غافل لك الله)! إن الفكرة التي طرحتها ياصديقي تستحق أن تعالج، ولكن الطريقة والأسلوب الذي استخدمته، يحتاج إلى أن تراجعه وتدقق فيه كثيرا، وتجري عليه التعديلات اللازمة..بحيث تخفف فيه غلواء الجرأة ما استطعت. لتكن يا صديقي حكيما فيما تعالج، فكفاءة الكاتب المصلح ربما تجلت في حنكته أكثر مما تتجلى في جرأته. ولتواصل كتاباتك بحرية مسؤولة وجرأة مقبولة خير من أن ينالك ما نكرهه لك إذا ما تغلبت الحدة على الحكمة..مهما ارتفعت غايتك وسمت أهدافك. لنتذكر معا أن أخطر ما يفسد أهدافنا النبيلة إلى الإصلاح جرأة غير محمودة. فما أجدى أن نتلطف في أسلوب تعبيرنا، فذلك أحرى بنا أن نترك أثرا نافعا لما نكتب. وما أجمل أن نعالج أفكارنا بلباقة تهيئ الآخرين إلى أن يتجاوبوا معنا لا ضدنا.! رسالتي هذه تعنيك صديقي العزيز وتعني زملائي الكتاب، كما تعنيني معهم بالمثل. وما أسعدني أن يتقبل رسالتي هذه من توسعت مداركه، وتنوعت ثقافته، واثقا في سعة أفقه، ورحابة صدره..ولا يفسد للود قضية. [email protected]