خلال ربع قرن من الزمان كابدت الكوميديا المحلية من حالة تقشف وقحط، وأعلن الوسط الفني حالة من العقم وعدم القدرة على تفريخ شخصيات كوميدية تتميز بالتنويع وتبحث عن التجديد ومحاولة الفكاك من تقوقع الشخصية المكررة، والقدرة على تخطي الجغرافيا لرسم ملامح الفنان السعودي على الخارطة العربية، ما ولد شعورا من الملل وحطم إحساس الإبهار لدى المتلقي. وباستعراض تاريخ الكوميديا المحلية فإنها عانت خلال خمسة وعشرين عاما من شح في المواهب الكوميدية، واكتفت الساحة بما أنتجته حقبة النصف الثاني من الثمانينيات التي أنجبت ناصر القصبي، عبدالله السدحان، وراشد الشمراني، الثلاثي الذي بقي متسيدا للساحة دون منازع. وبعد تلك السنين العجاف شهدت الساحة الفنية خلال رمضان نضوجا وميلادا لشخصيات كوميدية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن رحم الفن السعودي قادرة على إنجاب أسماء تتخطى تلك الرموز، وتستلم الراية لمواصلة المشوار، جاء ذلك عبر «واي فاي» الذي عرضته قناة MBC وتجلت فيه مواهب كوميدية حقيقة قادرة على الخروج من نمطية الشخصية والتكرار، إذ تمكن حبيب الحبيب، أسعد الزهراني ومحسن الشمري، من الشروع في رسم أبجدية خارطة جديدة للكوميديا تعتمد أسماء جديدة مكان أسماء غابت أو شرعت في الغياب أو أخرى تعثرت في برامج لا تقدم مفيدا ولا تضيف جديدا، بل أسهمت في انتشار التهريج والاستخفاف. وبنظرة فاحصة فقد استطاع «واي فاي» أن يبرز الموهبة الحقيقة للثلاثي الذي استطاع باقتدار أن يباري محترفي الكوميديا المشاركين في البرنامج، وتمكن أيضا من وضع أقدامه على أرض صلبة ومدرسة حقيقة للكوميديا ترقبها أعين الأسرة العربية من المحيط إلى الخليج. لقد تجلى «واي فاي» في إظهار العديد من مكامن الموهبة لدى الفنانين في تقليد الشخصيات وأيضا في تقليد الصفات والحالات الإنسانية التي يمر بها الإنسان في يومه كما أن قرب الطرح من الهم الاجتماعي في بعض الوصلات ساهم بشكل كبير في أن يكون للبرنامج أصداء واسعة، مكنت من ملء فراغ «طاش ما طاش» الوجبة التي أدمنها المشاهد لمدة عقدين من الزمن، والعمل السعودي الأشهر، والأكثر إنتاجا، وكان من الخطورة بمكان أن يجازف بأي بديل، كونه أي «طاش» استنفد أفكار المعالجة الاجتماعية كوميديا، في وقت تورط بعض الفنانين في المنحنى «الطاشي» وكانت النتيجة الفشل. إن طريقة التعاطي التي عرضت بها حلقات «واي فاي» والمتمثلة في قصة رئيسة من الواقع الخليجي تعالج في قالب كوميدي إضافة لفقرات التقليد والغناء جعلت منه وجبة مشبعة وعوضت عن إسدال الستار نهائيا على طاش، وهذا الأمر أكده تفاعل المتابعين للعمل، عبر التعليقات التي تنشر بعد نهاية الحلقات على مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت أدلة قطعية على الاكتساح الذي حققه العمل. وبعودة لتفريخ المواهب التي عمد إليها العمل، وبتشريح مفصل لكل موهبة فإن أسعد الزهراني القادم إلى الكوميديا بقوة، العالم الذي تشربه منذ الصغر وتمكن من قفز حواجزه بحرفية عالية في وقت وجيز، إذ لمع اسمه منذ أول إطلالة له، ووجد في «واي فاي» فرصة سانحة لإبراز قدراته العالية على تقمص الأدوار وتأرجح اللسان بين اللهجات. واستطاع الزهراني أن يقتحم عالم الشخصيات الصعبة التي تحتاج لقدرات تمثيلية خاصة معلنا ميلاد كوميدي شاب له مستقبل على الصعيدين المحلي والعربي. فيما يتملك حبيب الحبيب خفة ظل خارقة وقدرة عالية على التقمص، فهو عنوان آخر للكوميديا كونه غير تقليدي إضافة لقدرته على إتقان الأدوار المناطة به في ظل امتلاكه كاريزما الكوميديا على مستوى الملامح والأداء، كما أن موهبته أكسبته القدرة على اقتحام أسبار المشهد سريعا والانخراط في الشخصية دون عناء أو إخلال. ويأتي الفنان عبدالمحسن الشمري الذي تقاسم دور البطولة مع الحبيب من خلال وصلة «سوالف شيبان»، الفنان الذي بدأ مشواره الفني عبر موقع اليوتيوب بنشر أعمال خاصة ركزت على الهم الاجتماعي، فكان له نصيب من الظهور عبر «واي فاي» الأمر الذي يؤكد ضرورة الدور التكاملي بين الإعلام الجديد والتقليدي وأهميته في تفريخ المواهب. وتعتبر الشخصية التي ظهر بها الشمري قريبة من الفرد البسيط كونها تناقش همومه وما يمر به ويتميز بقدرته على الارتجال الفطري الطبيعي الذي يتسم بالعفوية والتلقائية الأمر الذي كون له قاعدة جماهيرية جديدة غير تلك التي لحقت به من عالم الشبكة العنكبوتية، ويتوجب عليه الحفاظ على هذه الموهبة وتطويرها ومحاولة الخروج من إطار الشخصية الواحدة، إذ أن التقوقع في «كاركتر» واحد سيكون له نتائجه العكسية إذا ما علمنا أن الساحة الفنية يعتريها قحط فيما يخص الفنان المرتجل دون إسفاف. لقد تميز العمل الرمضاني «واي فاي» بفعل جودة النصوص وقدرات الممثلين العالية كما أنه استطاع إعادة ترتيب البيت الكوميدي الخليجي والتأثير في بورصة نجومه، في وقت عانت فيه من محدودية الظهور ووهدد الإفلاس المواهب في فترة ليست بالقصيرة..