شاع بين بعض الناس أن المرأة العربية في عهد الجاهلية كانت منبوذة في المجتمع، محرومة من المكانة المرموقة فيه، وذلك محض توهم. فكما أن كثيرا من الرجال كانوا خاملين دون ذكر ومنطفئين دون ائتلاقٍ، فكذلك شأن المرأة، حذو النعلِ بالنعل. وإلا فإن حضور المرأة العربية في نظام اللغة وشهودها في نصوص الأمثال السائرة، يجعلاننا نعتقد أنه كان لها شأن في المجتمع، ومكانة في الحياة الأدبية خصوصا وإلا لما ألفينا تلك الأشعار العظيمة تتغنى بجمالها، وتصف رقتها وعبقريتها: جسما وروحا. وقبل أن نتناول في بعض هذه الأحاديث القصار المرأة العربية الأولى في الأمثال، نود اليوم أن نتناول فكرة لطيفة هي حضورها الأدبي المرموق. ونستدل على ذلك بحادثتين اثنتين مشهورتين في كتب التراث الأدبي العربي: أولاهما مباراة تماضر بنت عمرو بن الشريد المشهورة بلقب الخنساء، لحسان بن ثابت في الشعر أمام النابغة الذبياني بسوق عكاظ. وقد تواترت بذلك الأخبار. وأخراهما احتكام الشاعرين امرئِ القيس وعلقمة بنِ عبدة الملقب بالفحل (وزعموا أنه لقب بالفحل لأنه تزوج زوجة امرئ القيس حين طلقها إذ لم تحكم له) إلى أم جندب التي زعم أهل اللغة أن معناها الداهية الدهياء، يقال: وقع القوم في أم جندب (وأم جندب هذه ليست أم جندب الأزدية الصحابية). وقد تنازع الشاعران الاثنان إليها، فأمرت بأن يقول كل منهما بيتا من الشعر في وصف فرسه على روي واحد (هل كانت أم جندب عالمة بالعروض أيضا؟)، فحكمت الناقدة لعلقمة بن عبدة، وزعمت أنه أشعر من بعلها امرئ القيس، لأنه جعل حصانه يدرك طريدته وهو ثان من عنانه، في حين جهد امرؤ القيس جواده بسوطه، وزجره بساقيه، مما يعني أنه لم يكن سابقا. ونحن لا نريد أن نتوقف لدى هذه المسألة النقدية وأي البيتين أشعر، فقد أثبتت الأيام أن امرأ القيس هو أمير الشعراء العرب على وجه الإطلاق، وأن وصف حاله في التعامل مع فرسه هو وصف صادق، ولا يزال المتسابقون يأتون ذلك في سباق الخيل إلى اليوم، فكان امرؤ القيس أقرب إلى واقع الأمر من غريمه علقمة؛ وإنما الذي نود أن نلفت النظر إليه أن كتب التراث أطبقت على أن الشاعرين احتكما إلى أم جندب، ويعني ذلك أنها كانت أديبة ناقدة، وتحليلها للبيتين الاثنين يدل على ذلك فعلا، وإن كنا نرى بأن الرواة ربما حرفوا بعض جوابها بالتزيين، ومن ذلك زعمهم أنها استعملت مصطلح «الروي».