صوت جدة، الحكواتي، أبو غنوة كل هذه الأسماء والمسميات هي لرجل واحد اختصر كل تاريخ جدة في ذاكرته وحياة الناس في كتاباته ووجوه الغائبين في رواياته هذا هو محمد صادق دياب، التربوي والإداري والإعلامي الذي رحل بصمت بعد حياة صاخبة بالحب والأصدقاء والكتابة، ففي عام 1363ه ولد الدياب في جدة وفيها تلقى تعليمه الابتدائي لمتوسط والثانوي.. وجدة التي ولد ودرس وتعلم بها (أبو غنوة)، لم يبخل عليها في بوح كتاباته، فكتب عنها وفيها ولها «المفردات العامية بمدينة جدة»، و«جدة.. التاريخ والحياة الاجتماعية»، وكتب «16 حكاية في الحارة»، و«الأمثال العامية»، وكان آخر ما نشره قبل رحيله عنها هي رواية «مقام حجاز». ونعود إلى سيرته ومسيرته، فبعد الثانوية حصل على بكالوريوس التربية وعلم النفس من كلية التربية في جامعة أم القرى عام 1390ه، وبعدها تحصل على الماجستير في علم النفس التربوي من جامعة ويسكنسن الأمريكية عام 1976 وحصل على شهادة الدكتوراه عام 2009 في علم الاجتماع لكنه لم يود أن يلقب بالدكتور. تنقل في رحلته الإعلامية بين عدد من المطبوعات صحافيا وكاتبا ورئيسا للتحرير، من أبرزها مجلة (الجديدة)، و(إقرأ)، ومجلة (الحج) العريقة في السعودية. كما كان كاتبا دوريا في صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية، وله العديد من الإصدارات الأدبية والاجتماعية، من أبرزها رواية (مقام حجاز) التي كتب فيها صورا من تاريخ مدينة (جدة)، كما أن روايته (الخواجة ين ) على وشك الصدور. وداعا على قدر الحب يتذكره شقيقه الإعلامي أحمد صادق دياب قائلا: في ذكرى أخي محمد صادق دياب، أعلق أحزاني على شماعة الوقت، وألقي بظلال الشوق على قائمة الطريق، وأبحث عن نفسي بين أزقة وشوارع النفوس، ولا ألمح إلا ظلا ممتدا إلى السماء،.. نم يا أخي على قدر الحب الذي يعتمر قلوبنا، وعلى قدر الشوق الذي يداهم أرواحنا، وتأكد أن شعرة معاوية لا تزال تربط بيننا. افتقدناك..؟ ربما ليست الكلمة التي نبحث عنها، فحياتنا لم تعد كما كانت معك، فكل خطوة تقربنا منك تعيدنا إليك، وأنت تجمع بيننا بذلك الود الذي لمسناه منك كنهر يروي الصحارى، والحنان الذي عرفناه عنك كحضن الأم التي لا تميز بين أبنائها، والطيبة التي غمرتنا جميعا كهطول المطر بعد الجفاف.. يقولون الوقت يذيب الذاكرة ويفرش للنسيان الطرق، ولكن حتى النسيان لم يستطع أن يبعد طيفك عنا، ويلغي شوقنا إليك ويسكن أماكن الوله الملتهبة عليك.. لا اعتراض على البعد، كما لا خلاف على الشوق، ولكننا نفقد كل يوم قطعة من نفوسنا منذ ابتعدت.. استرجع قليلا من كثير من ذكريات معك، وأعود إلى أوقات رسخت كشريان الوريد، يوما كنا هناك نتحدث عن الثقافة والأدب، وليلة كنا هنا نتحدث عن معاناة الأسرة، وأحيانا في ذلك المكان نتحدث عن حياتنا اليومية، وربما كنت تضحك كثيرا من تحملي لهموم كنت تؤكد أنها لا تستحق، كنت قادرا على سحب الشك من داخلي وإسقاط اليقين، كنت الوحيد الذي يمكنه أن يطمئنني أن الدنيا ما زالت بخير. أفترش تاريخي على أبواب بيتك، فهنا كنت تأتي في الليل مطلقا زومالا قديما، وهناك كنت تجلس تتابع الأخبار على التلفاز، وفي ذلك المكتب العتيق بالذكريات المحنطة على كل ركن فيه، كنت تكتب في هدوء، لا يقطعه إلا تلك المكالمات التي لا تخلو من الحب. هناك في شوارع العلوي حيث كنت تركض في الصباح في طريقك إلى المدرسة، تربض شجيرات النيم حزينة لأنك لم تسأل عنها منذ 15 شهرا، وعلى بوابة بيت نصيف تقف تلك الشجرة العجوز ترتجف حزنا بعد أن غبت عنها 15 شهرا، وشوارع العيدروس والبحر تقول عسى مانع غيابك 15 شهرا خيرا، ومدارس الفلاح تسأل وتقول هل أصبحت ناسيا مثل الآخرين فلم تعد تمر.. وأزقة (المظلوم) تتنظرك منذ 15 شهرا.. 15 شهرا والبسطاء يقولون إنك قادم لهم، والأحباب يؤكدون أنهم في قلبك كما أنت في قلوبهم، 15 شهرا و(غنوة) بلهفة تقبل صورك المعلقة في أرجاء البيت، 15 شهرا و(السوسنة) ترسم ملامحك في كل حركاتها وسكناتها، 15 شهرا و(سماحة) البيت تبحث عنك في كل ركن حولها.. بينما تسكن (أم غنوة) مع حزنها في أبعد ركن. لا أستطيع أن أصدق أنه قد مر اليوم خمسة عشر شهرا على فراقك، وليس رحيلك فأنت لم ترحل، ممتدة وكأنها من العدم إلى شظايا الروح.. الفراق حق، ولا اعتراض، وإنا لربنا لراجعون.. رحلة لا تنسى أما صديق العمر الإعلامي بدر محمد العباسي فيفتتح ذكرياته قائلا «مع الدياب.. رحلة العمر التي لا تنسى» ويتذكر ما مضى بقوله «محمد صادق دياب الزميل والأديب والأخ الجميل بأفكاره وأعماله تزاملت معه في جريدة المدينة قبل عشرين عاما، كان هو المسؤول عن ملحق (الأربعاء) وكنت آنذاك مدير قسم الإعلانات والأعداد الخاصة، وكانت العلاقة سطحية للغاية حتى زرته في قسم الأربعاء، وطلبت نشر بعض الصور فرفض لأنها لا تليق بالأربعاء، وقال لي انشرها في الإعلانات أفضل فتألمت منه كثيرا». بعدها تقابلنا في لقاء جميل ونقي فهو لا يحمل في قلبه شيء لي، وكان حسن التعامل معي وهذه هي أخلاق محمد صادق دياب، رحمة الله عليه، كان الدياب محبا للجميع وكان دائما يحكي عن زيارته كموجه تعليمي في القرى والهجر وكان دائما يقف مع هؤلاء في استكمال فرصهم وتعديل أمور مدارسهم، ورغم عمله في التعليم كان الدياب محبا لمهنة الصحافة غير متفرغ في الجريدة، ولكن كان إنتاجه الصحفي أكثر بكثير من المتفرغين وإبداعاته الكتابية التي تعنى بتراث جدة وأهلها وحاراتها، وعلى سبيل المثال كتب عن الحانوتي أبو عواد الذي كان يضع الخشبة التي تحمل الموتى. والدياب من مواليد حارة البحر ووالده بحار وصياد، ولكن الدياب خرج من هذا الكار وأصبح رجل علم وثقافة وحارة في نفس الوقت. وأنا أشهد، كانت المدينة يوم الأربعاء أفضل الأيام في الإعلانات لقوة ملحق الأربعاء الذي يشرف عليه محمد صادق دياب. وعلى الجانب الآخر، الدياب كان رجلا حنونا على الجميع سخيا في كل تصرفاته سخيا في حديثه، سخيا في صدقاته للمحتاجين، سخيا في نقاشه سخيا في تعامله. عندما يجدنا الدياب في أي مكان يرفع بقدرنا كأننا نحن أفضل منه علما ومعرفة، ويبدأ بالتحدث عني في الجلسة كما لو أنني رئيس التحرير الرجل المثقف والكاتب الكبير رغم بعدي عن هذا وذاك. محمد دياب هو الذي عرفني على عمدة جدة القديمة، وكان يصحبني ليلا ليعرفني على أسماء اصحاب المنازل القديمة فهو عمدة أدباء الشباب والشيوخ، عندما يضع العمة ويمسك العصا تعرف أنه عمدة ابن عمدة وصاحب العمد جميعا. كنت رفيق المرحوم في السفر بعد أن تعرفنا على العائلة، زوجته أم غنوة وزوجتي، وكان السفر عائليا دائما وما عرفت لمحمد عدوا ولا أعداء حتى لمن أساء النية وكل حياته مع الآخرين سلم وسلام، ودائما يجد للمخطئ أعذارا ويتحدث عن المجني عليه بالحسنة وأنا واحد من الناس الذين آلم محمد دياب كثيرا وكان صبورا علي، وكان لا ينام حتى يسمع شخيري وعندما لا يسمع الشخير يتفقدني خوفا لا أكون أصبت بأي أذى!!. أبو غنوة كان رجلا يحب عائلته ويحب زوجته وبناته وكان يقضي أكثر الأوقات معهم في السفر، وكان اجتماعيا حتى لو جلسنا على قهوة نجده يتحدث في الأدب والشعر والحارة ويحكي حكايات جميلة لا تستطيع الإعراض عنه. لقد استمتعت مع محمد دياب كثيرا وأذكر أنه كتب عني أكثر من أربع مقالات عندما ذهبت إلى بريطانيا للدراسة وكانت مقالات جميلة لأنه كتب بريشة فنان عظيم. ومقالات أخرى كان يخطط لها المرحوم محمد دياب وقال ذات مرة إنه سوف يكتب عني قصة جميلة وكان يريد مني قبول القصة ولكن الموت كان أسرع من كتابة القصة أو الكتاب. أنا هنا في صدد الحديث عن زوجته السيدة العظيمة (أم غنوة) التي تشربت منه كل شيء حتى طريقة الكلام تجد أنها في حارة .. هلا يا بوية.. وحشتني فينك وهي كانت تردد كل ما يقوله محمد دياب، فهي كانت ملهمة بما يكتبه وما يقرأه فهي سيدة أخذت جميع خصال محمد دياب حتى هذا اليوم. ما زالت تتخيل أن محمد دياب ما زال عائشا عندما تدخل منزلها تجد صور محمد في كل غرفة وفي كل مكان لا تأتي سيرته العطرة إلا وهي تبدأ في البكاء الشديد غير الإرادي. كان يداعبنا دائما وكان على قدر كبير من الشدة الحسنة كان يمسك نفسه عند الغضب وله قدرة في السيطرة على نفسه وهي سمة من سماته وكان صريحا وحبيبا للجميع. وفي السفر رافقته كثيرا وذات مرة قابلنا شخصا وأعرف أنه منافق ولكن كان الدياب يبرر له أنه يقصد الخير وهو يعلم أنه رجل يريد الكذب، ولكنه كان يأخذ الكلام أنه صدق ويحاول أن يكون مبتسما لكي لا يضايق الكاذب في شيء. ولا بد من ذكر قصة حدثت له مع معالي الشيخ أحمد صلاح جمجوم عندما كان رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة المدينة وكان الدياب مسؤولا عن ملحق الأربعاء حين وشى به أحدهم عند معالي أحمد جمجوم وأكد المنافقون الوشاية وبذل أصدقاؤه وهو من أجل البرهنة على أنها وشاية إلا أن معالي الشيخ أحمد رحمه الله كان مصدقا هذه الوشاية وبعد أن تأكد الشيخ أحمد أنها وشاية اعتذر له ولكن المرحوم محمد دياب قال للشيخ أحمد «ما نقللك كذب وافتراء، كان كل ما يهمني أن تعرف الحقيقة وأنا لم أكن راغبا في الاستمرار في العمل وكأنه كان يريد فقط جلاء الحقيقة». ومن الله عليه فعمل في رئاسة تحرير مجلة إقرا ومجلة الجديدة ثم مجلة الحج واصبح كاتبا يوميا في الاقتصادية، فكانت حياة محمد دياب سلما وسلاما، والوفاء لمحمد دياب سمة متأصلة فيه فهو دائم التواصل مع أقاربه وأبنائه حية وأصدقائه ومع جميع زملائه في جميع المراحل. وعندما سافر إلى لندن لتلقي العلاج انتظرت كثيرا لكي أسافر أقضي وقتا معه في لندن، وكان يقول لي «لا تأت حتى أكلمك حتى أعرف أجلس معك، واليوم الذي أكدت فيه الحجز وقلت أمر على القاهرة لمدة ثلاثة أيام وبعدها أسافر إلى لندن جاء الخبر المفاجئ من الصديق الصدوق لمحمد دياب الدكتور عدنان اليافي بأن صاحبنا توفي اليوم الجمعة». رحل هكذا تاركا في قلب كل من عرفه لوعة وألما وحزنا عميقا. رحمك الله يا صديق العمر وأسكنك فسيح جناته وألهم كل محبيك الصبر، وسأبقى أتذكر دائما تلك اللحظات الجميلة التي عشتها معك. صديق العمر الفنان الكبير محمد عبده كشف بكلمات قليلة خسارته لرحيل أبي غنوة بقوله «كان مختلفا.. يجمع كل الماضي في ذاكرته ويمضي إلى المستقبل بثقة، منذ أن عرفته لم يتبدل ولم يتغير على إرثه وأصدقائه وتاريخه، كان وفيا لكل شيء وصادقا في كل شيء، ومعنى حقيقي للمحبة والصداقة والنبل، يرحمك الله يا أبا غنوة لقد كنت نعم الصديق ونعم الوفي». العميد والعمدة من جهته، يتذكر الإعلامي عبدالله محمد رواس صديقه الدياب بقوله لقد كان.. العميد والعمدة. ويضيف «كان للصديق الصحافي حتى النخاع علي خالد الغامدي تجليات في إطلاق المسميات بين زملاء المهنة الراكضين نهارا والمسترخين ليلا بإحدى مقاهي جدة! ولأن هؤلاء الزملاء لم يكملوا تعليمهم للمرحلة الجامعية فإن الزميل علي خالد أطلق على مقهى (الدروبي) بجوار سور المحكمة مسمى (الكلية) تسلية لمن حرموا الدراسة الجامعية وتورية للثقلاء الذين لا تروق لهم جلسة المقهى. ثم ما لبث الزملاء أن أجمعوا على مناداة علي خالد عميدا لكلية المقهى، وكنا نقول حضر العميد، ذهب العميد، برر العميد، ولم يجد الزميل علي خالد بدا من الرضوخ لللقب، وإن كنت أشك أنه كان يزهو به! وحسب ما تسعف به الذاكرة بعد مضي أكثر من 40 عاما، فإن مرتادي مركاز العميد ب(قهوة الدروبي) بدون ترتيب هم: عبدالقادر شريم، عبدالعزيز الشرقي، محمد الفايدي، حسن باخشوين، سالم مريشيد، خالد قاضي، علي بن سلم، عكاشة طه، عبدالله باخشوين. ومن التلفزيون عبدالله رواس. أما غير المنتظمين علي حسون، علي مدهش، محمد عبدالواحد، عبدالرحمن بريك، عبدالرحمن مبروك، حسن غنيم ومحمد صادق دياب وهو الوحيد الذي أكمل الدراسة الجامعية في تلك الأيام الخوالي. أما العمدة فهو لقب استحقه الدياب -رحمه الله- عن جدارة بالتنشئة وعشق الحارة والانحياز للبسطاء ثم بالركض الطويل من كاتب إلى محرر إلى رئيس تحرير إلى متخف باسم (العمدة) بملحق الأربعاء، ولقد حاول البعض أن يثيروا الأستاذ عبدالله عمر خياط باعتباره الحائز على لقب عمدة الصحافة من قبل على مناداة الدياب عمدة للصحافة بدلا عنه إلا أن الأستاذ الخياط وبعد أن استرخى عن العمل الصحفي الميداني بادر إلى مخاطبة الدياب في أكثر من مناسبة بالعمدوية. أدام الله عمر من ذكرت ورحم حبيبنا عمدة قلوبنا محمد صادق دياب. ولا يفوتني أن أنوه بأن من أغوى الدياب باقتحام تعب الصحافة هو علي خالد الغامدي وقد كانت بينهما قرابة وجوار بالسكن وزمالة مبكرة من عهد الصبا وعشق متوهج جدا علي خالد للاتحاد ومحمد صادق دياب للأهلي. وفاته توفي محمد صادق دياب يوم الجمعة الرابع من جمادى الأولى عام 1432ه الموافق للثامن من أبريل 2011 في لندن بعد معاناة مع مرض السرطان، وقد صلي عليه ظهر يوم الأحد بمسجد الجفالي بجدة ودفن في مقبرة حواء بحضور الآلاف من المشيعيين. مؤلفاته ألف الراحل محمد صادق دياب العديد من المؤلفات القصصية والتاريخية والاجتماعية منها: المفردات العامية بمدينة جدة. امرأة وفنجان قهوة. جدة التاريخ والحياة الاجتماعية 1423ه. ساعة الحائط تدق مرتين (مجموعة قصصية) 1404ه. 16 حكاية في الحارة 1402ه. الأمثال العامية في الحجاز 1399ه. مقام حجاز (رواية) 1432ه/2011م، ونشرت قبل وفاته بشهر.