كلما تكثفت وسائل الاتصال أدخلتنا في رهق نفسي. ففي الزمن السابق كنا نحن من يبحث عن المحطات الإذاعية لتلقف الأخبار والحكايات، أما في هذا الزمن فقد تحولنا نحن إلى محطات تضخ فينا مئات الأخبار اليومية وعلى مدار الساعة حتى تشتت أفكارنا وتمزقت نفسياتنا مما نسمع ونقرأ. كثافة التواصل أحالت حياتنا إلى صمت مطبق وتحولنا إلى صناديق تتقبل أخبار العالم وتشارك في صياغتها بعلم ومن غير علم، تلك الكثافة أفقدتنا الحميمية الخالصة، فلو كنت داخل بيتك (وفي تجمع أسري) ستكونون مجتمعين بالأجساد، بينما كل واحد منكم تعبث أنامله بجهاز ما، لتلقي رسالة أو بعث رسالة أو في دردشة مع عشرات البشر الذين ليس لهم وجود معكم .. غدونا نجتمع في البيوت وفي الاستراحات وفي المقاهي وفي الفنادق، نلتقي أجسادا بينما أرواحنا وانتباهنا مكرس لتبادل القلق .. وأصبحنا مشاركين في كل حدث محلي أو عالمي بالموافقة أو الشجب أو الاستنكار، وفي أحيان خلق بلبلة كون المشاركين في صياغة ما يبث تختلف مستوياتهم العلمية ومستوى الإدراك والوعي لديهم، وليس الأمر مقصورا هنا، بل تحولت أخبار العامة إلى أخبار منقولة فغدت كمية المنقول تفوق الاحتياج وفاضت عن الحد وغدا كل منا موزعا جيدا للقلق. ولم تعد هناك من وسيلة للهرب من طوفان الأخبار والتعليقات والمقولات وكل ما نتبادله جالب للرهق النفسي أو السأم وهذا ما يذكرنا بما حدث مع بداية الثورة الصناعية في أوروبا وانشغال الناس عن حياتهم الأولى المتسمة بالدعة إلى العمل والانهماك الزائد فيه، عندها ظهرت دعوة مطالبة الناس بالعودة إلى القرية من أجل المحافظة على سلامة الروح من الانجراف في الحياة الميكانيكية ذات التسارع المفقد لروح الجماعة، ويظهر لي أن العالم الآن يبحث له عن موقع ليهرب إليه بحثا عن ملجأ يقيه من طوفان الأخبار والحكايات، ولأن مكنة التواصل مسحت من الخارطة وجود القرية أو الريف أو هدوء الصحراء أو الجزر النائية فلم يعد هناك مكان لتهرب إليه من كل هذه الضوضاء. وعندما تلقيت نبأ أن الروائي العظيم جابريل ماركيز أصيب بالخرف قلت في نفسي لقد هرب من المصيدة التي أعدت للبشرية، فبعد أن استمتع بخلق عوالم ساحرة من القص وأسكنا بها اكتشف أن العالم لن يستقبل شيئا جديدا منه كونه منشغلا بتلقي الرسائل القصيرة ذات الوخز الحاد من غير أن يعيش لحظة حلم فقرر الرحيل إلى براري الخرف هربا من حياة مرهقة بما تحمله لنا من أخبار متوالية وسقيمة ومفجعة. فهل على كل ذي فن أن يهرب باتجاه الخرف كون عوالمه لن تكون محل تهافت كما كان يحدث سابقا، ربما في هذا الهياج التواصلي لا تستطيع أن تسمع قصيدة رائعة أو أغنية ذات شجن أو رواية ذات عالم مدهش .. ربما أشعر بهذا كون الفضاء غدا مزدحما بما لا يجب أن يسمع، وربما هو شعور مقدم للحاق بماركيز في عالم الخرف، ذلك العالم الذي يسقط فيه الرهق النفسي وتعود كطفل يتهجى حروف العالم لتشكلها وصياغة عالم لا يستقيم إلا في بالك الوديع، فهيا بنا إلى الخرف.. فلم تعد هناك قرية.! للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 737701 زين تبدأ بالرمز 159 مسافة ثم الرسالة [email protected]