غيرت التقنيات الحديثة الكثير من معاني الحياة ومفاهيم الثقافة. وستتصل الظاهرة بوتيرة متسارعة ما دام العالم كله يعيش عصر آلات تعيد صياغة علاقات الكائن بذاته وبالعالم والكون من حوله ، وفيما وراء أي حكم عليها بالخير والشر. من هذا الباب أتساءل عما إذا كان علينا أن نعيد النظر في كل ما ينشر عبر تقنيات التواصل والتفاعل الاجتماعي. فالرسائل والتغريدات تعد بالملايين كل لحظة في كل مكان في العالم. والشباب في مجتمعاتنا التي تمتلئ بالعزلة والفراغ يكتب بطريقة تختلف تماما عما يدونه بعض منا على مواقع شخصية يراد لها أن تكون حاضنة لمنتوجاته الثقافية. واختلافها مبرر بكونها شكلا من أشكال الثرثرة العابرة التي ينجزها الفرد بأطراف أصابعه ، تماما كما كان الناس يتحدثون في مختلف مقامات الحياة بأطراف ألسنتهم. من هنا فالخطاب في مجمله أقرب ما يكون إلى الحكي الشفاهي الذي يتشكل في اللحظة وتسمه العفوية. وهي هكذا لأنه من غير المنطقي ، بل من المحال ، أن يتفكر الشخص جيدا في كل ما يقول ويفعل في مقامات التعبير الحر عن الذات. ولو تعامل الناس مع بعضهم البعض بمعايير الجدية على مدار الساعة لفقدوا معاني إنسانيتهم ، لأن المحاذير ستتحول إلى مخاوف تشل قدرة الكائن على مجرد الكلام. حتى مجتمعاتنا التقليدية كانت تتسامح وتتساهل مع لغو الحديث ، ليس كرما منها بل لأن كل فرد سوي في حاجة إلى لحظات يتحرر فيها من هذه المحاذير والمخاوف تحديدا. طبعا هناك من لا يحب اللهو والمزاح ولا يتقن شيئا من فنون المؤانسة لكنهم أقلية لا يقاس عليها. والحس العام المشترك يعرف جيدا أن هذا النمط من البشر ليسوا هم الأقرب إلى التعقل والتعفف والحكمة. وحينما يوصفون بأنهم ثقلاء على أنفسهم وعلى من حولهم فالوصف دقيق ، وربما جاز الحديث عن علل نفسية تتطلب الاحتواء ، بله العلاج. قبيل أيام كنت أخوض مع بعض الأصدقاء والأقرباء في هذا الموضوع مرة بلسان الجد وأخريات بلسان التنكيت والسخرية. أحدهم ذكرني بواحدة من أجمل عادات الناس في القرية. كانوا يغتنمون فرص الفراغ فيتحلقون حول الدلة والبراد ، أو يتجمعون صدفة في مكان مفتوح وسريعا ما تنطلق الأحاديث ويتعالى الضحك وكأن الكلام العفوي الخفيف مراكب سحرية تأخذهم إلى أبعد العوالم وأجملها. طبعا هناك أفراد يعرفون بسرعة البديهة وخفة الروح وطلاوة اللسان ولذا يهيمن حضورهم المرح على الجميع. كأنهم ممثلون بارعون يرتجلون الدعابات والطرف والتعليقات واثقين أن الآخرين يشجعون وينتظرون المزيد. ولم يكن أحد يتحرج من المرور الكريم على شؤون مقدس أو مدنس. فالجميع هنا من أجل الخروج عن كل مألوف ومعتاد رتيب. حتى عبارات التعوذ والاستغفار تكتسب في نهاية الجلسة سمات الخطاب العفوي الذي ينتج ويستهلك في اللحظة ذاتها. وسأدخل في الموضوع الذي حفز هذه الكتابة. سألني أحد الشباب عن تغريدات أشد جرأة ووقاحة من سفه ذلك الغر الأحمق الذي قامت عليه دنيانا ولا ندري متى تقعد. أفدته بأنني منشغل كل الانشغال ببناء بيتي ، ولا أكاد أطل على الأخبار إلا فيما ندر من الفرص فما بالك بمتابعة الفيس بوك والتويتر. ثم إن الإنترنت لا يعمل حيثما أقيم ، ولحسن الحظ ، ولذا فقد ارتحت حتى من تصفح رسائلي. عندها تدخل آخر ليقول إن القضية مفتعلة ومن العبث مراقبة كل ما يقال ويكتب في النت وإلا لأقام نصف المجتمع دعاوى على نصفه الآخر. لم أعلق بقدر ما ذكرتهم بحكايات سبق أن تورطنا فيها فما زادتنا إلا خسرانا. في الثمانينيات أصدر سلمان رشدي رواية آيات شيطانية التي لم يكن عدد قرائها ليتجاوز بضعة آلاف من محبي كتابته ومن النقاد المتابعين لحركية هذا الجنس الأدبي. وحينما أطلقت الفتوى الخمينية الشهيرة تحول النص الطويل المعقد إلى سلعة رائجة وتسابقت دور النشر على ترجمته والترويج له ، وحضر كقضية رأي عام في مختلف وسائل الإعلام. وقبيل سنوات نشرت رسوم كاريكاتيرية عابثة في صحيفة دنمركية لا يقرؤها غير بعض أهل البلد الشمالي الصغير فتكرر رد الفعل نفسه والنتائج ذاتها. والحقيقة أنني لا أدري عن مدى الإقناع فيما ذهبت إليه. لكنني واثق تمام الثقة أننا سنخسر الكثير كلما خضنا المزيد من الحروب الصغيرة .. فاتعظوا يا أولي الألباب.