الإيحاء سمة عالية القيمة في الكلام الأدبي، ذاك بأن العبارات إنما تتمايز بمقدار ما تحدثه من أثر فني دون كشف وتصريح، وكما أن الإيقاع إيحاء صوتي، فإن الأدب إيحاء لفظي، حين تتجه اللغة الموحية فيه إلى إحداث هزة داخل المتلقي إما ببعد المعنى وتحرك اللغة أو بجمال المعنى وإتقان العبارة، أو بقرب المعنى وبعد اللغة، على أنك عندما تتأمل في كلام أدباء العربية القدماء ، تعجب من رؤاهم النقدية أو إشاراتهم الأدبية أو حتى تحديداتهم اللغوية التي تكاد تقتل الأدب ولا تحييه، فالباقلاني مثلا في إعجاز القرآن يتحدث عن الجملة الأدبية ويذكر «الكلام موضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس، وإذا كان كذلك، وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب.. ! وهذا الكلام يصدق على الخطب، وإن كانت الخطبة المؤثرة تقوم بالعبارة الموحية أكثر من الكلام الذي يسمعه الناس يوميا ولم يعد يؤثر فيهم، صحيح أن التعبير بكلمة إيحاء لم يكن موجودا قديما، لكن كانت مصطلحات تدل عليه أو قريبة منه، مثل الإشارة واللمح والرمز والإيحاء، كذلك لا تبتعد التورية والكناية كثيرا عن مفهوم الإيحاء الذي يعد من أهم خواص الأدب، وتجد الشعراء أكثر افتتانا بهذا الفن ونجدهم فيه أبلغ تأثيرا، فالشعراء الذين يقيمون للرمز والإيحاء وزنا يشحنون الألفاظ بموجات من الأضواء الخافتة التي تعكس حالة من اللمعان والومضات المؤثرة في جمال العبارات. والشعراء يتفاوتون فيما بينهم في القدرة على توظيف هذه الومضات لإدهاش المتلقي العصري المتذوق، وأكثر النقاد من القدماء أرادوا الشعر موحيا غير مكشوف، بحيث لايفيض في المعنى أو الصورة، بل يقدم جزءا يسيرا يمر كالومض، تاركا للمتلقي مهمة الاكتشاف والاستنتاج، وقد ربطوا الشعر بالإيجاز، حتى تكتمل الجمالية له من خلال اللمحة الدالة والومضة المعبرة، ودلال تلك اللمحة لا تكون صريحة بل ضمنية تحتاج إلى تأويل، حتى ربطوا اللمح بالأثر النفسي، والإيحاء لا بد معه من براعة فائقة تجعل النص يمر بخفاء ويكون سائغا، وقد وافق العرب القدماء في ذلك بعض النقاد المعاصرين، فهذا مالارميه يطلب ترك كل شيء واللجوء إلى الإيحاء، فالشعر لديه الاكتفاء بالإلماح إلى الأشياء أو إخفاء خصائصها التي تجسد أفكارا ما، وليس على الشاعر أن يقود القارئ بيده إلى الموقع الدقيق لفكرته، وكلودال يرى أن الشاعر يوحي بواسطة الصورة. [email protected]