ما ابتلي شاعر على مدى تاريخ الشعر العربي بمثل ابتلي به أبو تمام، حيث جوبه بعدد من الأعداء والخصوم حتى ان شعره يكون جميلاً إذا ما أنشده أحد فإذا ما اكتشف أنه منسوب إليه صار مدحه ذماً واستحال جماله قبحاً، وحدث أن انتقد الآمدي بيتي أبي تمام في رثائه لمحمد بن الفضل الحميري: إن ريب الزمان يحسن أن يه دي الرزايا إلى ذوي الأحساب فلهذا يجف بعد اخضرار قبل روض الوهاد روض الروابي حيث عد "يحسن" من ألفاظه الركيكة السوقية، وعاداته السخيفة العامية، لأن من ألفاظ العموم أبداً أن يقولوا: يا فلان أنت تحسن أن تأخذ،، ولا تحسن أن تعطي، وتحسن أن تعق، ولا تحسن أن تبر، وربما جاء اللفظ في موضعه فلم يقبح، فجاء به أبو تمام في أقبح موضع، وما كانت بحاجة إلى "يحسن" ولا يخفى ما في هذا الكلام من تحامل على أبي تمام فكيف يخرج من عالم وناقد قوله: "من ألفاظه الركيكة السوقية، وعاداته السخيفة العامية"!! لأن الناقد المنصف لا يستخدم مطلقاً هذه الأوصاف. ثانياً أن الآمدي جعل هذه اللفظة من استخدامات العوام، والله سبحانه جل في علاه يقول: (... وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا). واللفظة - فيما أرى - رقيقة ومعبرة وقد وظفها أبو تمام توظيفاً جميلاً، والكلام اليومي والعامي إذا استخدم في سياق فني وكانت اللفظة فيه موحية ارتقى إلى كلام النخب والخواص، ثم نعجب من الآمدي وهو يسدي نصيحته إلى أبي تمام مستدركاً عليه إذ يقول: "ولو قال: إن ريب الزمان يهدي المنايا والرزايا إلى ذوي الأحساب فتكون المنايا مهداة إلى من أصيب، والرزايا الى قومه" وأبو تمام لم يرم إلى مقصود الآمدي لأن ذكر المنايا لا يناسب البيت الثاني التمثيلي المعطوف على البيت الأول، فإن وجود لفظة المنايا يلوي عنق الحديث نحو المرثي والكلام متوجه إلى من وراء المرثي، فإن المنايا تعني انطفاء المرثي، والرزايا تعني اشتعال الحزن في أهله ثم يدرك الآمدي أنه لم يحسن اختيار لفظة "المنايا" فيستدرك ويعدل عنها بقوله: ".. أو غير المنايا، فإن الألفاظ كثيرة، ولو قال: "إن ريب الزمان لن يني يهدي الرزايا" أو "إن ريب الزمان مجتهد يهدي الرزايا" وللأسف ان اختيار المفردتين هاتين يعمق الفارق في الذائقة الشعرية بين الناقد والمبدع، فإن (يني) تقيد اهداء الريب بالزمن المتعدد حيث يتجه المعنى الى أن ريب الزمان كثيراً ما يهدي، وذلك ما لم يرم إليه أبو تمام لأنه يقصد حسن الاختيار كما يرى وليس تعدد وتكرر الإهداء، أما في لفظة (مجتهد) فأعتقد أنها توقع الآمدي في ما ذهب إليه من انتقاد أبي تمام من عامية وسوقية (يحسن) لأن كلمة (مجتهد) دارجة عند العوام وهي مع هذا لو وظفت في مكانها المناسب ربما حسنت ورقت لكنها هنا عبارة تعليمية لا شعرية، لذا فقد بيّن لنا هذا الموقف حقيقة انحياز أبي تمام للغته الخاصة ولألفاظه التي يوظفها توظيفاً جيداً ومتميزاً حتى وإن بدت لغيره عامية أو سوقية فهو مع نظرية (والضد يظهر حسنه الضد) عمق الفارق بين ما يجب أن يكون عليه لفظ يتسلل من تحت لحاف الذوق، ولفظ يسقط من فوق جدار اللغة، ونتفق مع الآمدي في انتقاده لاستخدام أبي تمام لفظة (فلهذا) لأن الإشارات الشعرية إيحائية أكثر منها لفظية، ولا يلزم الشاعر أن يصرح بالإشارة كقوله "فلهذا يجف بعد اخضرار" وقوله من قبل "كذا فليجل الخطب"، غير أن هذا لا يمكن أن يلغي مقدرة أبي تمام على جعل ألفاظه تقطر رقة وعذوبة في أكثر قصائده.