من الصعب جدا أن نختصر مواضيع كبيرة كمفهوم الديمقراطية أو الدولة أو العلمانية في مقال صغير وعابر في صحيفة يومية، فالأمر يتعدى ذلك إلى تأسيس كامل يتطلب كتبا في فهم كل كلمة من هذه الثلاث لمدى تشعبات القضايا التي تثيرها كل واحدة على حدة، وفي المقابل فيما تثيره من ارتباط هذه الثلاث فيما بينها ارتباطا وثيقا عند البعض في حين يرفض الكثيرون هذا الربط. ومع إقراري باتساع الموضوع واختلال الكتابة العابرة حوله لاختلاف الكثير من الدارسين والباحثين حوله، فإن ما دعاني إلى ربطها في عنوان هذا المقال هو في مدى التلازم الضروري أو غير الضروري بينها. في العالم العربي، وعلى مستوى بعض المثقفين البارزين كعزمي بشارة ومحمد الأحمري بدأ الحديث عن فصل الديمقراطية عن الدولة العلمانية، وإذا كان لهذا الفصل وجاهة تاريخية من حيث أسبقية الديموقراطية على ظهور الدولة العلمانية في أثينا في عصور اليونان القديمة؛ إلا أن عودتها في العصور الحديثة جاءت بسبب فصل الدولة عن الدين مع الجمهوريات العلمانية في أوروبا، أي بعد ظهور مفهوم الدولة الحديثة التي تؤمن بسيادة الإرادة الشعبية بتمثيل برلماني، ووضع الدولة في مقابل الدين وتحقيق مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، أو هكذا أرادت الدولة الحديثة العلمانية الغربية. مع تغول الدولة الشمولية (لا أفضل وضعها علمانية) وتسلط الدولة على مقدرات الشعوب عاد الحديث إلى «حيادية الديمقراطية» كما يصر مارسيل غوشيه على هذا التعبير، ومن المفارقات التي ربما لا يريد معرفتها الكثيرون أن مارسيل غوشيه في كتابه: (الدين في الديمقراطية) يربط مابين حيادية الديموقراطية واتساع الليبرالية في المجتمعات الغربية، أي أن الإصرار على الحرية والفردانية ضد شمولية الدولة جاءت من قبل الكتاب الليبراليين إلى جانب أن العلمانية أعطت فرصة لبعض المتدينين في الغرب أن ينصهروا في المجتمع، ويتصالحوا مع قيم العلمانية العامة، مع الحرص على بقاء الإيمان في دواخلهم، أي مواطن صالح ومؤمن مخلص أقول: عزز نضال بعض الليبراليين وتصالح المتدينين مع العلمانية حيادية الديموقراطية بحيث إنه لم تعد المسألة راجعة إلى فصل حاد بين الدولة والدين بسبب تخفف الدولة من شموليتها وتطور مفهوم الدين في أوروبا ليكون أكثر حداثة في المجتمعات الغربية، وصار التدين فرديا «الأنسان» بعدما كان سلطويا (الكنيسة)، ليجري إعادة مفهوم الديموقراطية وإشراك الدين في الدولة العلمانية المخففة، أي حيادية الدولة أمام الجانب العام بما فيه الديني .. ومع إعادة مفهوم الديموقراطية في العالم العربي، إلا أنني لا أستطيع أن أفهم ذلك التعاطي مع مفهوم الدولة العلمانية التي حيدت الدين في المجال العام ولم تنفه، حتى أن العلمانية نفسها لم تعد علمانية «حدية» بل «حيادية»، وهذا راجع إلى تطور مفهوم العلمانية نفسها. إن أهم مبادئ الديمقراطية كما طرحت في الغرب وهي الحرية والفردانية والمساواة التي تؤسس لفعل المشاركة الاجتماعية والسياسية جاءت بفضل الدولة العلمانية، فلا ديمقراطية برأيي الخاص دون بيئة مهيئة لها مما يعني أن الديموقراطية حسب تصوري متصالحة مع الدين.