كانت في طريق العودة، لكن ذلك الطريق الطويل الذي تقطعه «حورية» سيرا على أقدامها كل يوم أصبح أقصر لأن خطواتها اليوم أكبر، ولولا خجلها من لفت أنظار المارة والجيران في حارتهم الشعبية القديمة ذات الشبابيك المهترئة، لأطلقت ساقيها للريح وعادت لمنزلها عدوا من فرط السعادة. توقفت برهة لالتقاط أنفاسها وأخرجت من حقيبتها علبة الدواء، ثم أطبقت فمها على الفوهة لتنفث بعض الرذاذ الذي حلق مباشرة نحو رئتيها الضيقتين، واستأنفت المشي. ابتسمت وهي تستشعر زوال معاناتها اليومية مع قدميها، فستبتاع حذاء رياضيا يساعدها على السير بدلا من حذائها البالي، ولن تنسى شراء عباءة أخرى عوضا عن ترقيع ما ترتديه. لمحت الصيدلية الملاصقة للمنزل لدى اقترابها، فتذكرت أن دواء والدتها يوشك على الانتهاء، همت بالدخول لشرائه، لكنها آثرت أن تضع راتبها الأول في يد أمها لتتأمل ملامح وجهها تنطق فرحا وتفوز بدعائها، ومن ثم تستأذنها في شراء ما تريد لها ولنفسها ولأخيها الوحيد. أخرجت مفتاح المنزل من حقيبتها وفتحت الباب لتدخل، وأفكارها لا تتوقف عن التدافع، فهي لا تصدق بأنها أخيرا استقرت في وظيفة بعد أشهر من البحث المتواصل والتجارب المريرة التي احتفظت بتفاصيلها لنفسها. فأمها المصابة باعتلال في القلب لا تتحمل أي ضغط نفسي أو توتر بعد فقدها لزوجها، فكيف تخبرها بأنها تركت عملها السابق كسكرتيرة في شركة حديثة بسبب محاولات رب العمل للتقرب منها واستغلال حاجتها على مرأى ومسمع من زميلاتها، إضافة لحرمانها راتب شهرين بسبب عدم إذعانها لإيذاءاته؟ ولولا لجوئها سرا لزوجته لما انتهت القصة! دخلت المنزل وأغلقت الباب بكعب حذائها وهي تقول لنفسها إن الأمر أصبح من الماضي، فهي سعيدة الآن بعملها لثماني ساعات في المركز التجاري، فالمكان عام ومكشوف ومحاط بكاميرات المراقبة، ولا أحد يجرؤ على إيذائها وزميلاتها أمام رجال الأمن المنتشرين في كل الزوايا، ويكفي أنها تعمل لكسب رزقها بكرامة دون مد يدها، وتخطط لادخار جزء من راتبها الضئيل لإتمام دراستها الجامعية. فجأة وقبل أن تدخل على والدتها، تذكرت أنها استلمت من قسم المحاسبة ظرفين، لكنها لم تسأل تلك اللحظة عن محتوى الظرف الثاني بسبب انشغالها بمسلسل الأحلام. دخلت غرفتها وأخرجت الظرفين وفتحتهما بتأن، الأول احتوى على ألفين و200 ريال، والثاني احتوى على خطاب إنهاء خدمة، كُتِبَتْ فيه تفاصيل الحلقة الأخيرة. [email protected]