بعد نحو ستة عقود من التفرد بالسيطرة على أجهزة الدولة ومناحي الحياة في المجتمع، يبدو أن حكم العسكر في بعض دول العالم العربي قد شارف فعلا على نهايته. الصراع الدائر حاليا بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر ومختلف القوى السياسية، وعلى رأسها التيارات الإسلامية، يمثل فصول المعركة الأخيرة التي يخوضها الجيش للحفاظ على مكاسبه وامتيازاته قبل أن يعود إلى ثكناته مرة واحدة وإلى الأبد. على مدى العقود الستة الماضية ظل الجيش صاحب الكلمة الفصل في تقرير سياسات مصر الداخلية والخارجية، وهو عاد للتأكيد على هذه الحقيقة التي غابت وراء صور جنرالات خلعوا بزاتهم المزركشة بالنياشين كناية عن سيطرة مدنية زائفة عندما اضطرت المؤسسة العسكرية قبل أكثر من عام بقليل أن تعود إلى الواجهة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سطوة ونفوذ بعد أن آثرت البقاء في الظل منذ انتحار المشير عبدالحكيم عامر عقب هزيمة 1967. منذ ثورة 25 يناير والجيش المصري يخوض أشبه ما يكون بمعركة مصير في مواجهة شارع تمثله قوى سياسية لا يبدو أنها في وارد السماح بالتفريط بفرصة قد لا تتكرر لدفن جمهورية يوليو 1952 العسكرتارية، وإعلان ولادة جمهورية مدنية تقطع بالكامل مع الماضي وتؤسس لدولة جديدة. الجيش من جهته لم يفتر سعيه إلى تسوية تشبه الصيغة التركية ما قبل عام 2002، عندما كان يحكم من وراء واجهة مدنية وفق قراءة تسمح له بالتدخل تحت شعار الحفاظ على قيم الجمهورية العلمانية. بالطبع، هذه الحال كانت سائدة في تركيا قبل وصول حزب العدالة و التنمية إلى السلطة منذ نحو عشر سنوات حين بدأت عملية تطويع، وتدجين المؤسسة العسكرية التي انتهى بها المطاف إلى الخروج نهائيا من المشهد السياسي و القبول بخضوع قرارها للحكم المدني المنتخب. القوى السياسية المصرية الإسلامية منها خاصة تحاول اختصار الزمن في سعيها لأن تحقق في أشهر ما حققته النخب المدنية التركية في عقود، و هي من خلال الضغط المستمر لإيصال مرشحها إلى الرئاسة قبل كتابة الدستور إنما تسعى ليس فقط إلى تقليص فترة حكم العسكر و بالتالي حرمانهم حتى من مجرد التفكير في تجديد ولاية ثورة يوليو التي جاءت بهم إلى السلطة، بل و هو الأهم ربما العمل على تغيير موازين القوى على الأرض بما يسمح لها بكتابة الدستور في ظل رئيس يمثل إرادتها بدلا من حكومة تمثل إرادة العسكر. صراع الإرادات هذا سوف يستمر حتى بلوغ الاستحقاق الكبير في تنصيب رئيس مدني، و هو ما يجعل الفترة التي تفصلنا عن هذا الحدث التاريخي الأحرج ربما في تاريخ الثورة المصرية الثانية. و من خلال التمعن في تجربة الأشهر الستة عشر الماضية يبدو واضحا أن ميزان القوى كان يميل بعد كل مواجهة في الشارع لغير صالح المؤسسة العسكرية التي لم تنجح في تأكيد إرادتها و لو مرة واحدة خلال صراعها المستمر مع قوى المجتمع المصري. و لو كانت القوى السياسية المصرية تتمتع بحنكة أكبر و حكمة أكثر لتمكنت ربما من حسم الصراع في وقت مبكر. بيد أن قلة الخبرة و المراهقة السياسية و المناكفات غير المسؤولة فضلا عن الانقسامات غير المفهومة إلا في إطار التهافت المستغرب على السلطة أدى إلى إطالة عمر المرحلة الانتقالية و جرجرة الثورة إلى غير الطريق الذي كان يجب أن تغذ السير فيه. مع ذلك، يبدو مؤكدا أن مصر و هي تحتفل هذا العام بالعيد الستين لثورة يوليو ستطوي ستة عقود من نموذج حكم أصبح من مخلفات الماضي، و تعلن عودة الحياة المدنية إلى مجتمع أرهقته إخفاقات العسكر، و طول مكوثهم في السلطة. و كما كانت مصر مثالا اقتدى به عسكر العالم العربي في القفز إلى السلطة، فإن نهاية حكمهم فيها يؤذن بمثل ذلك في بعض الدول في المنطقة العربية.