منذ الحادي عشر من شباط (فبراير) الماضي، تاريخ تنحي الرئيس السابق حسني مبارك، يحتل الجيش قلب الحياة السياسية المصرية. آلياته وجنوده وعناصر شرطته، يظهرون كإضافات على المشهد. يحتل الجيش المشهد لكنه لا يبدو مرتاحاً لوجوده في قلب الشارع المصري القلق والمتحرك، في وضع ربما يناقض طبيعة المؤسسة العسكرية المصرية. والجيش المصري الذي مر بمراحل عدة منذ تأسيسه الحديث على يد محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم يكن في أي منها بعيداً عن السلطة او ممارستها (ربما مع استثناءات اثناء الفترة الملكية)، يفضل البقاء في الظل وأداء أعماله ومهماته في منأى عن أعين الإعلام والجمهور. ويمكن تخيل حجم الضغط الذي تعرض له الجيش عند اضطراره للنزول إلى احياء القاهرة وغيرها من المدن في أوائل شباط الماضي، للحيلولة دون انهيار النظام العام واندلاع القتال بين المتظاهرين وبين قوى الأمن، وهو الأمر الذي بدا ممكناً في تلك الأيام الصعبة. كما أن وجود جيش كبير في بلد مثل مصر، يعني حكماً امتلاكَه مؤسسات ومصالح اقتصادية ومالية توفر له جزءاً من التمويل اللازم، إضافة إلى حصة من الموازنة العامة، فتنشأ عن التزاوج بين المصالح امتيازات يتشارك في الاستفادة منها عدد من الضباط ورجال المال والأعمال المدنيين الذين لا يُخفون اهتمامهم بالدفاع عن المصالح هذه. ويعيد بعض المراقبين البرود الذي ساد في الأعوام الماضية بين الجيش وبين الوريث المعين، جمال مبارك، جزئياً، إلى انضواء كل من الجانبين في مشروع اقتصادي كبير لمصر، فبينما سعى مبارك الابن إلى الخصخصة الشاملة والسريعة عن طريق بيع الأصول، أو بالأحرى ما تبقى منها، للحصول على السيولة النقدية بهدف إحداث «صدمة إيجابية» عند وصوله الى السلطة تؤمن له تأييد الشارع عن طريق زيادة ملموسة في الرواتب، من دون إبداء اهتمام كبير بآلية تسيير الاقتصاد في المرحلة التي تلي تلك الصدمة (وهذا ما يفسر المفاوضات مع إحدى الشركات الخليجية المشغلة للمرافئ لشراء حصص في إدارة قناة السويس)، فضّل الجيش العمل مع شركات أكثر تقليدية وحذراً، ومنها شركة «القلعة»، التي وسّعت في الشهور الماضية نطاق نشاطاتها من الوساطة المالية الى المقاولات. ولا يخفي أعضاء في المجلس الأعلى للقوات المسلحة ان الجيش كان يسير إلى صدام مباشر مع جمال مبارك وفريقه، وأن العمل على تعيينه رئيساً للجمهورية خلفاً لوالده كان ينطوي على تحد مباشر للجيش. ويقول أحد أعضاء المجلس إنه كان يصعب جداً عليه تصور نفسه يؤدي التحية العسكرية لجمال مبارك. لكن التخلص من جمال مبارك ورؤيته المغامِرة لمستقبل مصر لم يطمئن الجيش. فهناك اليوم خصوم أقوياء وأكثر تنظيماً وذكاء من مبارك وعائلته. وتبدو الفكرة القائلة بوجود تقاطع بين الجيش وبين القوة السياسية الأوسع تأثيراً (الإخوان المسلمين) تبسيطية على نحو مبالغ فيه، إذ إن العسكر «ليسوا علمانيين، ولن يظهر من بينهم كمال أتاتورك مصري»، على ما يقول الرئيس السابق لحزب التجمع الوحدوي رفعت السعيد، لكنهم في المقابل، ليسوا جناحاً للإخوان، فعصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة (الذي أسسه «الإخوان» بعد ثورة يناير)، يرى في الجيش وأدائه الحالي مشكلة كبيرة، رافضاً إسناد أي دور سياسي للعسكر. وطويلة هي لائحة المآخذ التي يلام الجيش عليها، سواء في الامتناع عن الإقدام على أي خطوة، من توقيف الرئيس السابق وابنيه، إلى تعديل الحكومة وإبعاد بعض رموز الفساد عنها، إلا تحت ضغط الشارع والتظاهرات المليونية والإضرابات الفئوية. ويحذر ابو الفتوح من ان يتحول الجيش من مُدافع عن الثورة الى عبء عليها. وربما يمكن ايجاد المبررات لسلوك المجلس العسكري في أنه رأس هرم مؤسسة محافظة، مثلها مثل جميع الجيوش في العالم، القائمة على التزام صارم بالأنظمة والتعليمات، وعلى تصورات وخطط مسبقة الإعداد وعدم رغبة في الانجرار الى المغامرات. يضاف إلى ذلك، أن الجيش المصري يعتبر نفسه منذ ثورة يوليو 1952، المصدرَ الحقيقي للشرعية والحاميَ للمجتمع وللسلطة السياسية في آن. وما يعجز الجيش عن فهمه بعد ثورة يناير، بحسب الباحث خالد فهمي، أستاذ التاريخ في الجامعة الاميركية في القاهرة، هو أن الشعب ثار بالضبط على ما يمثله الجيش، صراحة وضمناً. فالقوى الثورية، بحسب فهمي، نهضت ضد الدولة الابوية والرعوية وضد الفكرة القائلة «اقعدوا في بيوتكم ونحن نكمل عنكم»، وهي العبارة المنسوبة الى بعض اعضاء المجلس العسكري الذين زاروا ميدان التحرير في الايام الاولى لثورة يناير. ويرى فهمي أن بدايات انهيار النظام (والجيش في صميمه) كان يجب أن تحصل بعد هزيمة 1967، لكن النفط والحرب الباردة وحرب الخليج، أعطت كلها نظام مبارك فترة حياة. ويُجمل فهمي المشكلات التي تواجه إدارة الجيش للفترة الحالية الانتقالية بعدد من العناصر، منها فقدانه للشخصية الكاريزمية القيادية ومحاولته الحفاظ على مصالحه وامتيازاته الكبيرة والبحث، دون جدوى حتى الآن، عن شريك سياسي، سواء كان «الإخوان» او «الوفد» او «الفلول»، في حين أن التيار السلفي من جهة، والقوى اليسارية والليبرالية، لا تحمل سمات الشريك المقبول لأسباب تتعلق بتماسكها وميولها الأيديولوجية وغير ذلك. ويفاقم من المشكلة انهيار الجهاز الامني واضطرار الجيش الى اداء مهمات الشرطة. بيد أن اكثر ما يحير الجيش، على ما يرى فهمي، هو كيفية تعامله مع رئيس مدني له تطلعات ديموقراطية «زيادة عن اللزوم»، وهو ما لم يألفه الجيش المصري (ولا -استطراداً– أيٌّ من الجيوش العربية) لناحية تدقيق قيادة مدنية منتخبة من الشعب في تمويل ومهمات الجيش وامتيازات الضباط والعلاقات داخل المؤسسة العسكرية بين الرؤساء والمرؤوسين وغير ذلك. بكلمات أخرى، لم يعتد الجيش أن يتصرف كمؤسسة خاضعة للمساءلة في بلد يُنتخب المسؤولين فيه عن القوات المسلحة عبر صناديق الاقتراع ومن خارجها. هذه الرؤية إلى داخل الجيش لا تريح الكثير من المصريين، ليس فقط مسؤولي المجلس العسكري بل المدنيين أيضاً، فالمرشح الى الانتخابات الرئاسية عمرو موسى يرى انه «ليس من المصلحة طرح ما يعمق الخلافات» مع القوات المسلحة حرصاً على تجنب أي سيناريو قد يؤدي إلى الفوضى. ويعتبر ان سلوك الجيش في أحداث ماسبيرو ربما اكتنفه بعض الأخطاء لكن تتعين معالجته بما يحول دون تكرارها. أما عصام العريان، فيرى أن الجيش سيجد نفسه محرجاً جداً في طلب ضمانات لأوضاعه من المؤسسة السياسية. من ناحيته، يبدو عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة اللواء حسن الرويني مدركاً لحقيقة بسيطة، وملحاً على ضرورة تغييرها: إن الجيش يخسر حالياً. ويقول «لقد وجدنا انفسنا نمسك كرة نار، فإذا ظلت في يدينا أحرقتنا، وإذا ألقيناها بعيداً عنا أحرقنا البلد». تعيد اللوحة هذه توجيه الأنظار إلى أحداث ماسبيرو، فالجيش الذي اتهم المتظاهرين بسرقة مدرعاته ودهس بعضهم بعضاً واطلاق النار على عناصر قوة الشرطة العسكرية المكلفة حماية مبنى التلفزيون، لم يكلف نفسه في مؤتمر صحافي استمر اربع ساعات شارك فيه ضابطان من المجلس العسكري، عناء الإشارة الى أي وجه من أوجه التقصير أو سوء الأداء يمكن ان تكون قد برزت عند أي ضابط او فرد في موقع الأحداث. ويعزو فهمي ذلك إلى ان الجيش المصري غير معتاد على التعامل مع المدنيين وعلى الاجابة عن اسئلة بسيطة ولكن عميقة عن أداء أفراده وان من الأسهل عليه تصوير نفسه، من قيادته الى افراده ككتلة متراصة واحدة بدلاً من تفسير وتفنيد سلوك افراد هنا وهناك. وعليه، تبدو مفهومة تلك المسافة الفاصلة بين الجيش وبين المواطنين. وعند سؤال اللواء الرويني عن مستقبل مصر، على سبيل المثال، لا يتأخر في الإجابة أن الجيش يريد «العودة إلى شغله»، أي الانسحاب الى ثكناته والاهتمام بشؤونه التي اعتاد الاهتمام بها في العقود الماضية. من هنا، قد يصح الاعتقاد ان المشكلة الحقيقية التي تواجه العلاقة بين الجيش والثورة المصرية، ليست تمسك الأول بالسلطة ورفضه إعادتها الى المدنيين، بل إصرار الثورة على إدخال التغيير الذي جلبته إلى مصر، إلى كل مكونات الدولة والمجتمع المصريين والجيش واحد من أبرزها ومن أشدها محافظة وامتناعاً على التغيير والتبدل. المرشحون والثورة في بيته في الطابق الثامن من بناية في حي هادئ، يوضح رئيس حزب «الغد» المرشح إلى الانتخابات الرئاسية أيمن نور الأسباب التي دفعت إلى الثورة المصرية وهي انسداد الرئات التي كان يمكن أن تتنفس مصر منها. ويقول إن التجربة التونسية كانت موحية جداً، وإن هذه الأخيرة بدورها استفادت من بعض عناصر قضية الشاب خالد سعيد الذي قتل على ايدي عناصر أجهزة الأمن المصرية. والخطير أن مصر كانت تسير في طريق مسدود بفعل التوريث وأن النظام كان يريد مصادرة المستقبل، ما فجر فكرة السعي إلى الخلاص. ويشير إلى أن الثورة لم تأت دفعة واحدة بل سبقتها تحركات عدة منذ سنوات منها حملات ضد التوريث وضد التمديد وضد تزوير الانتخابات. ويوضح نور أن حزب الغد قد دعا إلى الثورة وشارك فيها وفي الاجتماعات التنسيقية التي سبقتها. ويرى أن الرئيس السابق حسني مبارك «كان بطل الثورة الحقيقي وهو الذي أصر على انتصارها حتى اللحظة الأخيرة» بسبب عدم تعنته في مقاومة التغيير الذي لم يكن من معنى لمقاومته. وفي حي الدقي، حيث يقع مقر الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي عمرو موسى، وتبرز حركة المندوبين والزوار والمساعدين، يقول موسى الطامح إلى المنصب الرئاسي بعد رحلة ديبلوماسية طويلة، «كمواطنين عرب، نحن متفقون أننا أمام تاريخ يتحرك وإن الحضارة تفرد عضلاتها. وهذه (الثورات العربية) حركة تاريخ ومقاومتها صعبة جداً». ويتابع «حركة الثورة العربية ستسير إلى الأمام وكذلك حركة الثورة المصرية». ولا يستبعد موسى «حصول مطبات صناعية وطبيعية، لكن من يقاوم التغيير يسابق الزمن والزمن سيسبقه». ويؤكد أن للتطورات في مصر اثراً بالغاً عربياً وإقليمياًً، لذا فإن نجاح الثورة مسؤولية إقليمية وسيؤدي إلى التغيير الحقيقي في العالم العربي» المنقسم بسبب الحساسيات بين الأنظمة. أما في عيادة الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح التي أصبحت مقره الانتخابي، فيقول المرشح إن الوضع الحالي خطير اقتصادياً وسياسياً. أحد الأخطار تكمن في عدم قدرة الأحزاب على التفريق بين مصلحتها ومصلحة مصر. ويحمّل أبو الفتوح القوى السياسية والمجلس العسكري مسؤولية طول المرحلة الانتقالية، في وقت كان يتعين أن تظهر فيه الأداة المدنية الطبيعية التي تكتسب قوتها من التمثيل الشعبي، بما يعمق فكرة دولة القانون والديموقراطية ويمهد لممارسة السلطة منذ المرحلة الانتقالية بهذه الخلفية. ويوضح أبو الفتوح أن إحدى مشكلات الاقتصاد الكبرى هيمنة «الصناديق الخاصة» التي أنشأتها حكومات عهد مبارك ويصل عددها إلى 1300 صندوق تحتوي على ما يقارب تريليون جنيه مصري أي ما يعادل 70 في المئة من موازنة الدولة، داعياً إلى إدراج هذه الصناديق في أولويات المعالجة في الفترة المقبلة.