اسمحوا لي أن أعود بكم ثمانمئة سنة للوراء، إلى القرن السادس الهجري لأخبركم عن أول (روبوت) عرفته البشرية، في كتابه: (الجامع بين العلم والعمل) ذكر أبو العز إسماعيل بن الرزاز الجزري أن الخليفة طلب منه أن يصنع له آلة تغنيه عن الخدم كلما رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له الجزري آلة على هيئة غلام منتصب القامة، وفي يده إبريق ماء، وفي اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته يقف طائر، فإذا حان وقت الصلاة يصفر الطائر، ثم يتقدم الخادم نحو سيده، ويصب الماء من الإبريق بمقدار معين، فإذا انتهى من وضوئه يقدم له المنشفة، ثم يعود إلى مكانه، والعصفور يغرد. لم يكن هذا الإبداع العلمي حالة فريدة في حضارتنا المسلمة، بل كان سمة غالبة تقابل سمة التفوق الروحي الإيماني، فعلماء حضارتنا الزاهرة حققوا الكثير من الإنجازات، فهم أول من فصل الذهب عن الفضة، وأول من عمل الجليد الصناعي، وأول من اكتشف سرعة الضوء، وأول من صنع الكاميرا، وأول من وضع جداول اللوغاريتمات الحديثة، وأول من اخترع الصفر، وأول من استخدم الإبرة المغناطيسية في الملاحة، وأول من صنع الورق الفاخر الجيد، وأول من صنع الزجاج.. إلى عشرات بل مئات بل آلاف من هذه الأوليات العلمية الاختراعية الاكتشافية. هذه الحضارة الفذة هي التي أخرجت البيروني، والرازي، وابن النفيس، وابن البيطار، والزهراوي، وابن زهر، والإدريسي، وابن قرة، وغيرهم ممن تركوا في سجلات الريادة العلمية بصمات لا تنسى. وقد كانت مزية هذه الحضارة المسلمة أنها أعلت البنيان، وأغلت الإنسان ومزجت بين الجسد والروح، وزاوجت بين ضربة الكف وخفقة القلب، فنجت حضارة الإسلام من جفاف الروح وموت القيم وبوار الأخلاق. كما كان من مزيتها أنها أعطت الإبداع والإتقان مساحة واسعة في أدبياتها، وما ظنكم بحضارة يقول نبيها المصطفى صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)... حقاً إنها أمة الإبداع والريادة.