ما الذي تستطيع الكتابة فعله في زمن الحروب والكوارث والمجازر الجماعية، وكيف للمجاز أن يقحم نفسه بين جثة وأخرى، بين شجرة تحترق ومبنى ينهار على ساكنيه؟ مثل هذه الأسئلة التي نكاد ننساها في أزمة السلم والرخاء والطمأنينة سرعان ما تقفز إلى الواجهة، حين تذر الحرب قرنها مع قوة محتلة أو عدو خارجي، وتصبح أكثر مدعاة للمرارة والألم حين يتعلق الأمر بطغاة الداخل وجلادي الشعوب المقهورة. وحيث المدن تتحول إلى مقابر والدماء تضاعف مجاري الأنهار والهواء يحبس أنفاسه من شدة الرعب، يأتي أحدهم ليسألك بنبرة اتهام ساخرة ليسألك عما كتبته. ثمة شعراء وكتاب لا يملكون أن يداروا ارتباكهم إزاء سؤال كهذا إلا عن طريق الادعاء بأنهم كادوا يفرغون من إنجاز عمل شعري أو إبداعي يليق بالحدث. وثمة من لا يجدون غضاضة في اللجوء إلى الاستثمار السريع للحد الدامي فيعمدون إلى كتابة القصائد الحماسية والخطب المنظومة التي يستعد النسيان لالتهامها بعد انحسار العاصفة بقليل، وثمة من تأخذهم الصدمة إلى حد الذهول فيؤثرون الصمت إجلالا لفداحة الخسارة، تماما كما يفعل المحتشدون لتكريم الشهداء في مطالع احتفالات التأبين. فهم حين يستهلون الكلام بالصمت يبدون وكأنهم يرون فيه التعبير الأبلغ عن جلال المناسبة وترجيعاتها في الأعماق. هكذا تأتي الحرب دائما، لكي تؤكد عجز الكتابة ومأزقها، وبخاصة لحظة انهمار الدم وتفصد العروق وتفحم الجثث وتحديق العيون الجاحظة في فراغ العالم. فهل تعيد الاستعارة رجلا مقطوعة إلى جسد صاحبها؟ وهل يستطيع التشبيه أن يجمل الوجوه المشوهة والأفواه الفاغرة من الرعب؟ وهل يمكن للكتابة أن تقدم أمصالا للمرضى وخياما للمشردين؟ قد يسبق الكلام الحرب كما كان العرب يفعلون قبيل لقاء الفرسان، وقد يتبعها بقليل لكي يصف الحدث أو يمجده أو يخلده. لكن ونحن نتابع بألم يقطع نياط القلوب ما يحدث في حمص ودرعا وإدلب وحماة لا نملك سوى أنصاف الكلمات، سوى الحشرجة أو الزفرة أو الصرخة المتأنية عن الطعنة بانتظار شمس الحرية الموعودة وبهاء القصيدة الأجمل.