يبدو أن مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية تبدع دوما في اكتشاف الجديد، وتطلق طفرات وظواهر اجتماعية جديدة كل ربع قرن، ففي الستينيات والسبعينيات، كانت سان فرانسيسكو مدينة (الهيبيز). ولمن لا يعرفهم من جيل اليوم، فهم صوفيو القرن العشرين، الذين كانوا يقفون ضد حرب فيتنام، ويصارعون مبادئ الرأسمالية في الاستحواذ والسيطرة على الطبيعة. وكانوا ينادون بالتعايش مع الطبيعة، ونبذ الأنانية وتحفيز المشاركة الاجتماعية. غير أن ثقافتهم قد انمحت من الذاكرة الأمريكية، وشاخ روادها. ولكن مدينة سان فرانسيسكو الجميلة وموقعها المتميز على البحر وثقافاتها المتعددة تأبى إلا أن تدفع بأفكار جديدة بين فينة وأخرى. ومن الأفكار المستحدثة التي بدأت في المدينة خلال العشرة أعوام الماضية، وعمت العديد من المدن والعواصم الغربية بل والجامعات، فكرة مشاركة المرء السلع والخدمات التي يستغني عنها ولو لفترة محدودة، مع شخص آخر بحاجة إليها. وساهمت التقنية الحاسوبية الجديدة في تسهيل مثل هذه الحركات التعاونية الاجتماعية وضمان جودة الخدمة، وكذلك تأمين ملكية السلع والخدمات المتبادلة. ولقد لفت نظري إلى هذا الموضوع مقالة في إحدى الصحف السيارة عن موقع لتأجير السيارات بالساعة ويمكن لأي فرد استخدام سيارة حديثة ومميزة في إحدى المدن لقضاء حاجاته لفترة وجيزة محدودة لا تتعدى اليوم الواحد. وتسمح هذه الخدمة لأي منا أن يؤجر سيارته لساعة أو ساعتين أو نصف نهار، بدلا من تركها مركونة في أحد المواقف الخاصة بالسيارات. وحين ذهبت للبحث في ذلك وجدت عددا لا بأس به من المواقع التي تؤمن هذه الخدمة. وبرز منها موقع Share it، وموقع I-Go ،Zip car، وCambia وغيرها من المواقع. وتقدم مثل هذه المواقع التأمين اللازم للسيارة أثناء استخدامها من قبل المستأجرين. كما يمكن لصاحب السيارة أن يلصق شريطا إلكترونيا يسمح للمستأجر بفتح أبواب السيارة واستخدامها وإعادتها إلى مكانها الأصلي دون أن تكون هناك أية مقابلة بين المستأجر وصاحب السيارة. كما أن الموقع نفسه يعرض صورة السيارة، وتقييم وتعليقات من سبق أن استأجروا مثل هذه السيارة. والحقيقة أن مثل هذه الطريقة مثالية لمن يحتاج سيارة خلال اليوم، إما إذا تعدت مدة الإيجار يوما واحدا، فإنه من الأوفر استخدام السيارات المؤجرة من قبل شركات السيارات المعتادة. ويبدو أن الأساس النظري لهذه الفكرة يعود إلى منتصف التسعينيات، حين كتب الدكتور جيمس بوكانان مقالة شهيرة حول النظرية العامة للنوادي. وهي نظرية تعنى بتقديم تحليل نظري اقتصادي للملكية العامة، ولفكرة المشاركة، بدلا من الملكية الخاصة التي تعتبر أساس وجوهر الفكر الاقتصادي المعاصر. واليوم حين تزور معظم المدن الكبرى في أوروبا أو الولاياتالمتحدة، أو حتى الصين، فإنك ستفاجأ بدراجات ملونة وجميلة مرصوصة في نواحي بعض الشوارع. وإذا ما أردت استخدامها فيمكن وضع (يورو) أو (دولار) في خاصرة موقف الدراجة كي تستخدمها خلال تجوالك في الشوارع، ويمكنك تركها في موقف دراجات آخر في ناحية ثانية من المدينة. وإذا ما استخدمت الدراجة لفترة ساعة واحدة، فإن هذا الاستخدام سيكون مجانيا. وتقدم بلديات المدن في هذه البلدان مثل هذه التسهيلات لحل مشكلة المواصلات ومحاربة تلوث الجو من عوادم السيارات، لذلك فإن إيجار هذه الدراجات يتم بأسعار تشجيعية في الغالب. وقد وصل الأمر ببعض المستثمرين إلى فتح مواقع تمكن الأفراد من تمويل احتياجات بعضهم البعض المالية دون اللجوء إلى البنوك الرسمية، فموقع (Share la) البريطاني على سبيل المثال، يسمح لك باستثمار مبلغ لا يتجاوز خمسمائة جنيه استرليني يقدم إلى أحد المقترضين، على أن يضمن الوسيط ملاءة المقترض المالية مقابل 1% بدل خدمات. وتنتعش مثل هذه الخدمات في المدن الجامعية والجامعات الكبرى، حيث لا يحصل الطلاب إلا على قدر ضئيل من الدخل. وفكرة المشاركة بأجر أو دون أجر فكرة جميلة بدأت كذلك تدخل مجتمعاتنا العربية، عبر المواقع المختلفة على الإنترنت التي تسمح للمستخدمين بتبادل المعارف والمهارات والسلع التي يحتاجونها، حتى لو لم تكن تلك السلع جديدة، أو معمرة. كنا نعتقد أن المال أو السلطة هما أساس المجتمعات المعاصرة، وفجأة وجدنا أن هناك بعدا تعاونيا آخر للمجتمعات المعاصرة، وعلينا أن نكتشف هذا البعد.